لم يعد خافيا على أحد حجم القدرات التي وضعتها واشنطن لتجنب إصابة المفاوضات الجارية بشأن الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل باي نكسة. وقد برز ذلك عندما لجمت "الطحشة" الاسرائيلية التي برزت الخميس الماضي رفضا للتعديلات اللبنانية على اقتراحات عاموس هوكشتاين غداة اجتماع المجلس الوزاري المصغر الى ان نجحت باعادة ترميمه في خلال ثلاثة ايام من المفاوضات الشاقة. وعليه ما هي الدلالات التي قادت اليها هذه المعطيات؟
على وقع سيل المواقف الايجابية التي اطلقت من بيروت وتل أبيب منتصف الاسبوع الماضي وخصوصا تلك التي حيت الجهود التي بذلها الوسيط الاميركي الى مفاوضات الترسيم غير المباشرة عاموس هوكشتاين. وأفاضت في شرح النتائج الاقتصادية والمالية التي يمكن ان يجنيها الطرفان فقد انتهت الى اعتبارها خطوة تمهد لدخول منطقة شرق المتوسط في مرحلة من الرخاء الاقتصادي التي تسمح لدول المنطقة بالافادة من ثرواتها الطبيعية بعد طول انتظار. وقد تطورت هذه المواقف توصلا الى درجة قيل فيها ان السلاح الموجود فيها سيصدأ في مخازنه. وهو ما أشارت اليه مجموعة السيناريوهات التي تحاكي البرامج المقدرة للسنوات المقبلة عدا عن الحديث المتنامي عن حجم الهدوء والاستقرار الأمني الذي تفتقر اليه المنطقة.
وكل ذلك ترافق مع حملة ديبلوماسية وسياسية دولية وعربية وغربية لم يسمعها المفاوض اللبناني من قبل، ولا سيما تلك التي انطلقت من مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي التي رحبت بالتفاهم حول ترسيم الخطوط البحرية وتقاسم خيرات المنطقة الذي يسمح للبنان باستثمار ثروته النفطية والغازية معطوفة على التمني بان يخرج من مجموعة الأنفاق الغامضة التي اقتاده البعض اليها الى درجة وضع فيها البلد الصغير منذ فترة طويلة على صفيح ساخن. فهو باعتقاد هذه الدول يعيش أزمات تمادت و تناسلت نتيجة مجموعة العوامل المؤثرة في أمنه واستقراره وصولا الى ما بلغه الانهيار الإقتصادي والمالي والنقدي غير المسبوق. فهو تحول قياسا على مواقفهم الاخيرة منذ تلك الفترة ساحة ملحقة بمجموعة الساحات المأزومة ومن حقه الخروج من تبعاتها.
واعتبرت هذه الملاحظات انها تكونت ليس بسبب تطورات الازمة الفلسطينية المتمادية منذ عدة عقود تعود الى ما قبل منتصف القرن الماضي بقليل فحسب لا بل فقد باتت مرتبطة بتلك اقتيد اليها لبنان تزامنا مع مجموعة الحروب التي انفجرت وتوزعت على كامل الأراضي السورية بعد العراقية وما عكسته من كوارث على دول الجوار. قبل ان تضيف اليها حرب اليمن تداعيات إضافية زادت منها الروايات السلبية التي تحدثت عن تعثر المفاوضات بشأن الملف النووي بين إيران ومجموعة الدول (5+1) كما المفاوضات السعودية – الايرانية التي طوت جلسة المفاوضات الخامسة قبل اسابيع قليلة من دون ان تحقق اي تقدم كان يؤمل به لمجرد انتقالها من المستوى الأمني والمخابراتي الى المستوى الديبلوماسي بين البلدين .
على هذه الخلفيات، ظهر جليا ان معظم هذه المؤشرات الايجابية التي عكستها المواقف التي اوحت بها وسائل الاعلام الاميركية والغربية قبل اللبنانية والاسرائيلية حول التوصل الى الصيغة التي ترضي طرفي المفاوضات لم تدم طويلا، على الرغم مما عكسته التعديلات اللبنانية من ارتياح اميركي، تراجعت الآمال باتفاق محتمل في ساعات قليلة امتدت من بعد ظهر يوم الاربعاء وحتى صباح الخميس عندما انطلقت حملة اعلامية وسياسية للقيادات الاسرائيلية المعارضة يتقدمهم رئيس الحكومة السابق بنيامين نتانياهو الذي يشكل رأس حربتها في مواجهة حكومة يائير لابيد. وسرعان ما تلاحقت المواقف بما حوته من اتهامات طالتها بالتنازل عن مصالح اقتصادية وامنية حيوية اسرائيلية وتراجعها أمام مطالب "حزب الله" ورضوخها للموقف اللبناني. وما زاد في الطين بلة ان استدرجت هذه الحملة عددا من وزراء لابيد الذين اصدروا مواقف مماثلة. فإلى الحملة التي يقودها وزير العدل الاسرائيلي الذي وعد بطرح التفاهم على الكنيست والمحكمة العليا انبرى وزير الدفاع بيني غانتس - متناسيا مواقفه الايجابية قبل ساعات قليلة - كاشفا عن اوامر اعطيت للجيش للاستعداد لعمليات عسكرية محتملة على الحدود الشمالية للبلاد وفي محيط منصة كاريش النفطية بعد رفض المقترحات اللبنانية.
كان ذلك قبيل اجتماع المجلس الوزاري المصغر الذي دعي للبحث في ملاحظات لبنان على الاوراق الاميركية الجديدة التي انتهت اليها مفاوضات موفدها وهو ما وضع المنطقة في أجواء حرب بقيت محصورة ردات الفعل السلبية تجاهها في المناطق الشمالية والجليل الاعلى من دون ان يكون لها اي انعكاس على الساحة اللبنانية بعدما احتفظ "حزب الله" بنسبة عالية من الصمت تزامنا مع حملة رسمية لبنانية رفضت أي رد فعل سلبي اسرائيلي معتبرة أنها معنية بالموقف الاميركي المرحب والذي استوعب الملاحظات اللبنانية وتفهمها.
وعليه فقد تبلغ هوكشتاين بوضوح بان الملاحظات اللبنانية لا يجب ان تثير اي رد فعل سلبي ممن انغمسوا في المفاوضات بحرفيتها. وخصوصا بعدما تبلغ المفاوضون اللبنانيون بالموافقة الاسرائيلية على ما انتهت اليه مقترحات هوكشتاين. مع التاكيد على اهمية حماية المصالح اللبنانية مستقبلا منعا لأي تفسير قد تؤدي اليه بعض العبارات "الغامضة" أو "المطاطة" على حد سواء، والتي لا يحتمل لبنان ان يكون ضحيتها في حال تغيرت آلة الحكم في اسرائيل بين حكومة تصريف اعمال تستعد لانتخابات تشريعية وأخرى تؤدي اليها هذه المحطة الدستورية قياسا على حجم تهديدات نتانياهو ان فاز بها، وتأكيد نيته المعلنة باسقاط أي اتفاق يمكن ان تصل اليه حكومة غريمه لابيد.
امام هذه الصورة التي فوجئ بها الوسيط الاميركي قبل غيره من المراقبين الاقليميين والدوليين تدخلت الادارة الاميركية على قاعدة ان ما يجري في اسرائيل من ضجيج اعلامي وعسكري وامني ونفطي لا يمكن اعتباره موقفا نهائيا لا عودة عنه. وبعدها استعجل بفتح خطوط اتصالاته مع البلدين متمنيا وقف الجدل بانتظار تبادل الآراء مما هو مطروح منعا لأي انفجار محتمل تراجعت حدة المواقف حتى في الداخل الاسرائيلي. وتزامنا مع صمت حكومي استؤنف الحوار مع واشنطن وتراجع وزير الدفاع عن مواقفه الحادة تاركا الباب مفتوحا أمام الديبلوماسية الاميركية.
وانطلاقا من هذه المعطيات، وبعد تطمين الجانب اللبناني ان عمليات الضخ التجريبي من البر باتجاه منصة كاريش يوم الاحد اول امس هي الاولى من نوعها، ولا معنى لها في مفهوم استخراج الثروة لتكون سببا في التوتر، انشغل هوكشتاين ومعه فريق من القانونيين وخبراء الحدود في مشاورات مفتوحة استغرقت بعد ظهر يوم الجمعة مع نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب مدة 6 ساعات ونصف قبل ان تستنفد 5 ساعات تقريبا يوم السبت الماضي وانتهت الساعات الأربعة يوم الأحد بالاتصال الذي أجراه برئيس الجمهورية ميشال عون مبشرا باختتام المفاوضات واعدا بالصيغة النهائية التي من المفترض ان تكون قد باتت منذ نهار امس على طاولة المفاوضين اللبنانيين ليبنى عليها موعد اللقاء المحتمل ان دعت الحاجة اليه بين رئيس الجمهورية وكل من رئيسي مجلس النواب والحكومة في الساعات المقبلة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :