لا حاجة للقول انّ كل المسالك مقفلة، وانّ التصعيد هو سيد الموقف، على الصعد السياسية والحكومية والرئاسية وحتى النقدية والحياتية.
لذلك تبدو الابواب جميعها موصدة والمفاتيح مرمية جانباً عن سابق تصور وتصميم.
لكن وبخلاف الصورة الملبدة، فثمة حدود لن يجرؤ أحد على تجاوزها.
خلال الايام الماضية أشعلت مواقف رئيس الجمهورية، والتي تقصّد فيها الضبابية والغموض، التحليلات والتكهنات حول احتمال بقائه في قصر بعبدا اذا لم يتم تشكيل حكومة جديدة تلحظ اضافة 6 وزراء دولة من السياسيين الحزبيين، اي حكومة بـ»ثلث معطل» وتوازنات جديدة.
وكلام رئيس الجمهورية تضمّن رفع مستوى الخطاب السياسي من خلال العودة الى لغة الهجوم المباشر.
في المقابل، فإنّ الرئيس المكلف نجيب ميقاتي يدعمه الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط يضع خطاً أحمر حيال حكومة تلحظ ثلثاً وزارياً معطلاً لمصلحة رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل لوحده.
وهو مطلب على ما يبدو يلقى تفهماً ضمنياً من مختلف القوى السياسية الاخرى لوجود اقتناع بأنّ هدف باسيل الحقيقي ان يصبح رئيس حكومة رديف خلال فترة الشغور الرئاسي...
وهو الذي يطمح الى «قبع» اسماء موظفين كبارا لحسابات رئاسية، بغية اعادة فرض نفسه خياراً رئاسياً اساسياً.
والاهم الخشية في هذه الحالة من الدفع في اتجاه اطالة امد الشغور الرئاسي لسنوات عدة آملاً في إفساح المجال امام «عدة مساعٍ» تهدف الى شطب اسم باسيل عن لائحة العقوبات الاميركية، وبالتالي تعزيز وضعه كمرشح رئاسي.
من هذه الزاوية يمكن تفسير عدم وجود حماسة دولية جدية لإنتاج حكومة والتي كانت تواكب في العادة مسار تذليل العقبات امام الولادة الحكومية.
وهو ما يعني في المحصّلة ان الشرط الاساسي الذي يضعه رئيس الجمهورية لولادة الحكومة، اي اضافة 6 وزراء دولة من السياسيين الحزبيين، غير وارد بتاتاً عند القوى السياسية الاخرى وهو ما يلقى تفهماً خارجياً.
أما في شأن التلويح ببقاء رئيس الجمهورية في قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته الدستورية، فإن القوى الاخرى تتعاطى معه من باب تصعيد الموقف للتهويل.
وبالتالي انتزاع مطلب الثلث الحكومي المعطل، وليس من باب القرار الفعلي للذهاب الى تنفيذه لأسباب عدة ابرزها:
ان البقاء في قصر بعبدا وسط مقاطعة معظم الدوائر الرسمية اللبنانية، اضافة الى المحاذير الدولية والتي قد تتخذ إجراءات مع الرئيس عون، تصل الى حدود التعامل مع وضعه كحالة تمرد.
ويُشار هنا الى الاخفاق في تأمين مواعيد لعون على هامش الجمعية العمومية للامم المتحدة ما ادى الى إلغاء سفره الى نيويورك بمثابة الرسالة الواضحة.
فالخط الاحمر الذي رسمته العواصم الغربية يقضي بالحفاظ على الحد الادنى والمقبول من الاستقرار الداخلي وتحديداً على مستوى ما تبقّى من هيكل الدولة اللبنانية.
وبالتالي، فإنّ اي تجاوز لهذا الخط الاحمر سيُقرأ في اطار مشروع سياسي يتم تطبيقه وليس في اطار المناكفة السياسية اللبنانية الداخلية.
ففي نهاية المطاف هنالك حلول يتم تحضيرها وتجهيزها في العواصم الخارجية حول الملف اللبناني، والتي ترتكز على «جمهورية الطائف» مع بعض الروتوش في التفاصيل، والتي هي في حاجة الى التكامل مع التطورات الاقليمية المتوقعة.
ومن هذه الزاوية يمكن تفسير الاجتماع الفرنسي ـ السعودي والذي احتضنته باريس وأخذ كثيرا من اللغط، ومن المفترض ان تليه اجتماعات اخرى.
ووفق مصادر مطلعة على ما دار في الاجتماع، فإنّ جانبا اساسيا منه تمحور حول الاستحقاق الرئاسي اللبناني وظروفه والمشكلات التي يعانيها لبنان.
الجانب الفرنسي بدا حريصاً ومهتماً بأولوية حصول الانتخابات الرئاسية ودخول رئيس جديد الى قصر بعبدا، لِما يمثّل ذلك من اهمية المحافظة على الدولة اللبنانية تمهيداً لإعادة وضع لبنان على سكة النهوض عبر انجاز الاصلاحات المطلوبة.
لكنّ الجانب السعودي كانت له مقاربة مختلفة فهو بدا مهتماً بأن تكون الاولوية للاتفاق على اسم يحمل المواصفات المطلوبة وابرزها ان يكون خارج تأثير «حزب الله»، كمقدمة إلزامية لإعادة ترتيب الاوضاع في لبنان...
والا فإن السعودية ستعتبر نفسها غير معنية بمرحلة اعادة انتشال الاقتصاد اللبناني.
وتكشف المصادر المطلعة أن واشنطن وفي اطار مشاوراتها المستمرة مع باريس كانت قد أعربت عن وجهة نظرها منذ اكثر من شهرين...
وتحديداً قبل بدء العطلة الصيفية مطلع شهر آب الماضي، وبعد زيارة الرئيس الاميركي للرياض، بوجوب ترك مساحة رئيسية للسعودية في مشاريع الحلول للبنان.
خصوصاً انها قادرة على اعادة تنشيط شرايين الاقتصاد اللبناني المتهالك عندما يحين وقت الحلول.
وتردّد على نطاق ضيق انّ واشنطن موافقة على دور السعودية في الاستحقاق الرئاسي اللبناني وفي المرحلة اللاحقة، وأنها ستساند هذا الدور وتدعمه.
ويعتقد المراقبون بوجود وجهتي نظر داخل السعودية تتنازعان حيال طريقة التعاطي مع لبنان.
وجهة النظر الاولى تقول ان للسعودية تجربة طويلة مع الساحة اللبنانية، وانها قدمت كثيرا من الدعم المادي والمعنوي والسياسي، ولكنها حصدت في نهاية الامر الفشل بعكس «حزب الله».
الذي استطاع بمبالغ مالية اقل بكثير من تطويع الواقع اللبناني لمصلحته والسيطرة على القرار فيه.
اما وجهة النظر الثانية فتتمسّك بضرورة معاودة الاهتمام بالساحة اللبنانية من الآن للحد من تزايد نفوذ «حزب الله» وعدم ترك فراغات سيستفيد منها مجاناً.
وبالعودة الى الاجتماع الفرنسي ـ السعودي في باريس، فإن الجانب السعودي والذي تمسك بأولوية الاتفاق على مواصفات الرئيس المقبل، اجرى استعراضاً مع الجانب الفرنسي حول ابرز الاسماء المطروحة وهي ثلاثة، وتم استبعاد اسمين كونهما يشكلان خرقاً للمواصفات.
فيما سُجل عدم الاعتراض على الاسم الثالث في حال لم يكن هنالك من اعتراض ايضا لدى «حزب الله» عليه.
وعند هذا الحد انتهى لقاء باريس، لكن اللافت انه بعد انتهائه بأيام معدودة، رفع رئيس الجمهورية من سقف «مواجهته» الحكومية الى الحد الاقصى وشن هجوماً عنيفاً مؤكداً تمسكه النهائي بمطلب اضافة 6 وزراء دولة.
وهذا ما دفع بالبعض الى الربط بين ما دار في لقاء باريس وتسرّب الحوار الذي حصل وبين التصعيد الاخير لرئيس الجمهورية.
ورغم ذلك، فإنّ الاقتناع الراسخ هو أن للعبة التصعيد حدوداً من الخطر تجاوزها.
اضف الى ذلك ان ظروف المنطقة التي لم تنضج بعد، في حاجة الى مساحة زمنية ستحتسب بمثابة «الوقت الضائع» على الصعيد اللبناني، وهو ما يستوجب ملؤه بأقل مقدار من الفوضى.
اضافة الى ان «حزب الله» او اللاعب الاساسي على الساحة اللبنانية، يدرك جيدا التحولات الاقليمية الجارية، وهو يبني حساباته على اساسها.
فليس تفصيلاً أنه لم يتبنّ رسمياً اي مرشح لرئاسة الجمهورية على رغم من ان مرشحه غير المعلن هو سليمان فرنجية.
ومن هنا ايضا يمكن تفسير اصرار جبران باسيل على ثلث وزاري حكومي صاف له وحده ومن دون اي شراكة.
و»حزب الله» يدرك ايضا ان الانهيارات الحياتية والاقتصادية والمعيشية باتت خطرا كبيرا واصابت مختلف شرائح المجتمع اللبناني بما فيه الشريحة الشيعية حيث الفوضى تتنامى ويرتفع منسوبها، وباتت عامل تهديد جدي للواقع السياسي.
وهو ما يعني انّ لبنان في حاجة الى إنقاذ اقتصادي مصدره الوحيد دول الخليج العربي.
ومن هذه الزاوية يقرأ البعض المماطلة في ملف الترسيم البحري والتأخير في ثروة الغاز البحري، الى درجة انّ البعض «توقع» أن لا يحصل ذلك قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتفسير ذلك واضح.
لكن «حزب الله» الذي يعتمد سياسة واقعية، يريد ايضا تفاهمات سياسية واسعة تسبق التفاهم على رئاسة الجمهورية.
ذلك انّ هذه التفاهمات سترعى المرحلة اللاحقة على كل الصعد السياسية والاقتصادية وخصوصاً الامنية.
لكن هذه التفاهمات او بعبارة أوضح «التسوية السياسية» في حاجة الى مناخ اقليمي مؤاتٍ ما يزال في حاجة الى بعض الخطوات لكي يصبح ناضجاً.
وفي الانتظار على لبنان عدم الانزلاق الى خطوات مجنونة في الوقت الضائع.
نسخ الرابط :