ثمّة عبارة مأثورة لـ«بطريرك» القانون الدستوري جورج فيديل، مفادها ان «لا مشكلة دستورية ليس لها حل وفق المبادىء الدستورية. سوى ذلك لا مشكلة دستورية». في لبنان يُدِّرب السياسيون عقولهم على المعضلات ويسلّونها بها، كي تبقى بلا حل الا الذي يكفل دوامها
تدور معظم الآراء والاجتهادات والفتاوى، المتعارضة في معظمها - وهي وظيفتها الفعلية - المسيّسة بمذاهب المعنيين بها، من حول مسألتين تبدوان معضلتين دونما ان تكونا كذلك: أولاهما، بعد المادة 49 من الدستور المحدِّدة ولاية رئيس الدولة ست سنوات لا تنقص دقيقة ولا تزيد دقيقة وتأكيد الرئيس ميشال عون انه لن يبقى في منصبه بعد الدقيقة الاخيرة لولايته، ستخلو رئاسة الجمهورية من شاغلها ان لم تقع اعجوبة انتخاب الخلف في المهلة الدستورية. ثانية المعضلتين هي المصير المعروف سلفاً لحكومة تصريف الاعمال برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. ستنتقل اليها حكماً صلاحيات الرئاسة الاولى ما ان تشغر في الموعد الدستوري.
لأن النظام واللبنانيين خبرا التجربة ثلاث مرات قبلاً، عشية اتفاق الطائف وغداته، يصبح حدث الشغور عادياً، متوقَعاً، قليل الاهمية، ويكاد لا يبعث على القلق. كذلك الافرقاء المعنيون به، شهدوا التجارب الثلاث المنقضية لاكثر من ثلاثة عقود خلت، ولا يزالون اياهم يعيدون الكرّة مجدداً كأنها المرة الاولى. يُحدِثون الفراغ ويستمرون في ظله وينتعشون من بعده. هكذا دواليك. كل ما يجري في الداخل مدروس.
الجدل المستعرّ حالياً، وقد دخل عليه ضيوف جدد هم المراجع الدينية في هذا الجانب او ذاك صارت تفتي به بدورها، لا يتحدّث عن تأليف حكومة جديدة كما لو انه استحقاق دستوري في ذاته ملزم لاعادة تكوين سلطة اجرائية عاملة بصلاحياتها كلها، ولا يتحدّث عن انتخاب خلف لعون كما لو انه ايضاً استحقاق دستوري في ذاته لقرب انتهاء ولاية الرئيس الحالي، بل يدور الجدل ذاك من حول سبل الاستعداد لولوج شغور في الرئاسة، وايجاد آليات التكيّف معه وفيه، والتحوط للوقت الذي قد يستغرقه. لذا كثرت في الآونة الاخيرة، ولن تتوقف حتماً قبل 31 تشرين الاول، الآراء المتنافسة على تأكيد الذات في حوزة الافرقاء جميعاً: الذين لا يريدون خروج مَن لا يريد البقاء في قصر بعبدا، والذين يريدون مَن ليس في وسعهم اخراجها ورئيسها من السرايا. على نحو كهذا، سيستمر امرار الوقت ويتضاعف تسعيره بدءاً من الساعة الصفر من منتصف ليل الاربعاء - الخميس، وهو موعد بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد.
ليست حكومة ميقاتي هي المعنية بالمهلة الدستورية، ولا دور لها حيالها، ولن تجد سبباً كي تلتئم او تتخذ قراراً في خلالها. قد يكون رئيسها معنياً - وهو كذلك اذا شاء - بصفته رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة الجديدة، دونما ان يتحمس بالفعل للمهمة هذه التي لا يريدها في الاصل، كي تمكث حكومته المستقيلة في صلاحيات رئيس الجمهورية بعد 31 تشرين الاول، الا اذا سلّم له عون، مجاناً، اعادة تعويمها باصدار مراسيم جديدة بتأليفها على ما هي عليه الآن.
المراجع الدينية تحلّ ضيفاً على الاجتهادات والآراء الدستورية فتفتي بها
في الايام المنصرمة توالت اقتراحات المجتهدين. قيل اولاً ان الحكومة المستقيلة لا تملك ان تتسلم صلاحيات الرئاسة الاولى متى شغرت، لأنها مستقيلة بحكم الدستور بعد بدء ولاية البرلمان الجديد وليس بإرادة رئيسها. قيل كذلك ان استقالتها تقيّدها بالنطاق الضيق لتصريف الاعمال المانع توليها صلاحيات رئيس الجمهورية. ما قيل ايضاً منسجم مع ما كان قاله رئيس الجمهورية في ما مضى انه لا يسلّم الفراغ الى فراغ، لا تحلّ حكومة مستقيلة منقوصة الشرعية الدستورية في صلاحيات سلطة مكتملة الشرعية الدستورية. الا ان الرئيس كرّر مجدّداً، مرة تلو اخرى، انه سيغادر قصر بعبدا في لحظة انتهاء ولايته.
احدث الآراء جرى تداوله بضع ساعات فقط، ثم طُوي للفور عندما حُمِلَ اقتراح الى وزير سابق للعدل، قاضٍ، موصوف بالحكمة والعلم والتعقل، يُسأل رأيه في فكرة غير مسبوقة، مفادها ان يصير الى اصدار مرسوم قبول استقالة حكومة ميقاتي لحرمانها من تولي صلاحيات الرئيس عندما يشغر المنصب. في الغالب يصدر مرسوم قبول استقالة حكومة بالتزامن مع مرسومين متمّمين للاول: تسمية رئيس مجلس الوزراء وتأليف الحكومة الجديدة. عِبرة هذا التزامن، تفادي وقوع فراغ دستوري في المدة الفاصلة بين استقالة حكومة وتأليف اخرى تخلفها، وهو مغزى النطاق الضيق لتصريف الاعمال. المعتاد لدى استقالة حكومة، صدور بيان ينطوي على قبول استقالتها والطلب منها تصريف الاعمال - وذلك يعني ابقاءها في الخانة القانونية الموقتة المحددة الوظيفة - ريثما تؤلف حكومة تأتي من بعدها. بيد ان صدور مرسوم قبول الاستقالة - اياً يكن توقيته - وهو الذي يمثل طبيعتها الدستورية الملزمة، يجعلها فاقدة كل شرعية وكيان. ما توخاه القائلون بالرأي هذا، ان رئيس الجمهورية لا يغادر عندئذ منصبه - وان انتهت ولايته - كي تستمر من خلاله السلطة الاجرائية ويبقى يمثلها الى ان يؤتى بحكومة جديدة.
لم يكن جواب وزير العدل السابق، القاضي، شافياً لمَن وجّه اليه السؤال بكثير من التحليل السياسي. ما قاله كان الآتي:
1 - لا فراغ في السلطات الدستورية العامة التي تؤمن استمرار الحياة الوطنية. السلطات الدستورية العامة هي التي تسيّر المصالح العامة.
2 - تستعيد الحكومة المستقيلة صلاحياتها كاملة وتمارسها، ويصبح تصريف الاعمال وراءها.
3 - ليس ثمّة فرق جوهري او ذو مغزى بين حكومة مستقيلة بحكم الدستور، او مستقيلة بارادة رئيسها، او مستقيلة بأي من الحالات الاربع الاخرى المنصوص عليها في المادة 69، بما فيها تعرّض رئيسها الى مكروه ما يجعلها ايضاً بحكم المستقيلة. اياً تكن الحالات الست هذه ومبرّرها وشروطها، قاسمها المشترك هو الاستقالة. ما ان يشغر منصب رئيس الجمهورية تحلّ للفور محله، كاملة الصلاحيات والوظائف، الى ان يُنتخب رئيس جديد.
نسخ الرابط :