جاءت بنتائج عكسية.. هكذا قدمت نانسي بيلوسي “خدمة العمر” إلى الصين بزيارتها إلى تايوان

جاءت بنتائج عكسية.. هكذا قدمت نانسي بيلوسي “خدمة العمر” إلى الصين بزيارتها إلى تايوان

 

Telegram

 

الوضع في آسيا قبل زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان مطلع أغسطس/آب لا يشبه الوضع بعد الزيارة، فكيف قدمت واشنطن "خدمة العمر" إلى الصين بتلك "المقامرة"؟

كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنها ستستعيد الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك، ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.

وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها مؤخراً، في ظل إرسال الجيش الصيني عدداً قياسياً من الطائرات الحربية بالقرب من الجزيرة، في استعراض للقوة لا يخفى على دول المنطقة الأخرى.

ماذا قدمت بيلوسي للصين؟

نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تحليلاً عنوانه "كيف أتت مقامرة بيلوسي في تايوان بنتائج عسكية"، رصد تداعيات الزيارة ونتائجها بالنسبة لواشنطن وأجهزتها المختلفة، وبالنسبة للصين وتايوان، إضافة إلى تداعياتها بالنسبة للأوضاع في آسيا بشكل عام.

وفي يوم 2 أغسطس/آب الجاري، أصبحت نانسي بيلوسي أول مسؤول أمريكي رفيع المستوى يزور تايوان منذ عقود، رغم ما سبق الزيارة القصيرة من تصعيد في الحرب الكلامية بين واشنطن وبكين، وصل إلى تهديد الصين باستخدام القوة العسكرية في حال أصرت بيلوسي على الزيارة.

وطبقاً للنظام السياسي الأمريكي لا يملك الرئيس جو بايدن حق التدخل في زيارات بيلوسي الخارجية أو تصريحاتها أو أي شيء تفعله، لكن في الوقت نفسه تنتمي بيلوسي وبايدن إلى نفس الحزب الديمقراطي، ومن هذه الزاوية تعكس الصحف الصينية شبه الرسمية رأي القيادة الصينية في تحميل البيت الأبيض مسؤولية "أي تدهور في الموقف" ينتج عن الزيارة التي تصفها الصين بأنها "استفزازية".

على أية حال، تمت الزيارة وردت الصين فانقلبت الأوضاع رأساً على عقب. وبحسب تحليل المجلة الأمريكية، "جاءت المقامرة سيئة التوقيت بأثر عكسي تماماً، والأسوأ هنا أن تأثير الزيارة المزعزع للاستقرار كان متوقعاً تماماً ولا توجد صعوبة في التنبؤ به ويمكن تجنبه ببساطة" من خلال تأجيل الزيارة وليس حتى الإعلان عن إلغائها، وهو ما طلبه البيت الأبيض وقادة البنتاغون بالفعل من بيلوسي.

لكن بيلوسي تمسكت بالزيارة، خصوصاً بعد أن نشرت وسائل الإعلام خططها. وهكذا قابلت رئيسة مجلس النواب رئيسة تايوان تساي إنغ-وين، وهي المقابلة التي لم يكن لها داعٍ، خصوصاً في ظل تزامنها مع الذكرى الـ95 لتأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني، وهو ما زاد الطين بلة.

زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان/ رويترز

وبغض النظر عن نوايا بيلوسي أو دوافعها من وراء الزيارة، فالأمر أشبه بالرصاصة التي انطلقت بالفعل وأصابت هدفها، والسؤال هنا: فيمن استقرت تلك الرصاصة؟ إدارة بايدن سعت إلى التقليل من أهمية الزيارة وأعادت التأكيد على سياسة الولايات المتحدة الخاصة بأن "الصين واحدة"، فيما يعني أنه لم يطرأ تغيير على السياسة الأمريكية بشأن الاعتراف ببكين فقط كممثل شرعي وحيد للصين، وتايوان جزء منها بطبيعة الحال.

لكنْ هناك في مضيق تايوان، يبدو أن كل شيء قد تغيَّر بالفعل، من خلال التدريبات العسكرية غير المسبوقة التي نفذها جيش التحرير الشعبي بأفرعه المختلفة وفرض من خلالها حصاراً كاملاً على الجزيرة، ليفرض وضعاً راهناً جديداً لم يكن له وجود منذ انفصال تايوان والصين عام 1947. وهذا الوضع الجديد ليس مقتصراً على تايوان فقط، بل على منطقة شرق آسيا بأكملها.

فقبل الزيارة كان لتايوان مياهها وأجواؤها الإقليمية، وكان دخول طائرات صينية إلى تلك الأجواء أو عبور سفن للمياه في مضيق تايوان بأقل من 12 ميلاً بحرياً من شواطئ تايوان يثير أزمة دبلوماسية كبيرة وتجد بكين نفسها موضع اتهامات بأنها تسعى لتغيير الأمر الواقع بالقوة. وصحيح أن الصين كانت تفعل ذلك من وقت لآخر قبل الزيارة، لكن بأعداد محدودة من الطائرات وعلى فترات متباعدة، وكانت تتعرض لانتقادات شديدة.

أما بمجرد أن أقلعت بيلوسي من تايوان عائدة إلى الولايات المتحدة، اختلفت الأمور تماماً، فأعلنت الصين عن تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية وعلى مستوى لم يحدث من قبل قط، وصفتها الأوساط العسكرية الغربية بأنها "تدريبات الصدمة والرعب". ومن المستحيل أن تكون تلك التدريبات، بذلك الحجم والدقة، قد تم التخطيط لها قُبيل زيارة بيلوسي، بل الواضح أنها مُعدَّة منذ سنوات، فما الذي كانت تنتظره الصين كي تُجري تدريباً شاملاً على السيطرة على تايوان وتجاهل "مياهها وأجوائها" الإقليمية كما حدث؟ كانت الصين تنتظر "استفزازاً" يمثل غطاء لتدريباتها تلك، بحسب مجلة فورين بوليسي الأمريكية، وجاءت زيارة بيلوسي لتقدم لها "ذلك الغطاء على طبق من ذهب".

الصين "اطمأنت" على جاهزيتها عسكرياً

شهد عام 1996 أزمة صواريخ حادة بين الصين وتايوان، على غرار أزمة الصواريخ الكوبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في ستينات القرن الماضي، وكانت استعدادات جيش التحرير الشعبي الصيني وقتها ضعيفة للغاية. لكن أداء الجيش الصيني هذه المرة أذهل الأمريكيين أنفسهم، ووصفه خبراء عسكريون بأنه كان "نموذجياً". فالتدريبات العسكرية تكونت من أربع مراحل، شهدت اختراقاً جوياً وبحرياً لتايوان دون أدنى مقاومة.

في البداية، حددت الصين بدقة ووضوح المناطق التي ستجري فيها تدريباتها بالذخيرة الحية، وبعدها تم إخطار الطائرات المدنية وسفن الشحن بتلك المناطق كي تخليها، ولم تكن هناك مساحة زمنية للاعتراض أو التردد. وفي المرحلة الثانية، وعلى موجات بأوقات محددة، أطلقت الصين 11 صاروخاً باليستياً من طراز دونغفينغ في المياه المحيطة بتايوان من الشمال والجنوب والشرق، بينما اخترقت أربعة صواريخ أجواء العاصمة تايبيه، وكانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق بطبيعة الحال.

وعبَرت أكثر من 120 طائرة حربية الأجواء التايوانية فوق مضيق تايوان، متجاهلة ما تعتبره الجزيرة أجواءها الإقليمية، التي لا يمكن العبور منها إلا بتصريح مسبق. وفي المرحلة الثانية، مارست قوات مشتركة من الجيش الصيني عملياتها التدريبية لاختراق الدفاعات التايوانية من نقاط أرضية وبحرية وجوية داخل المياه والأجواء التايوانية بالفعل، وهذه أيضاً المرة الأولى على الإطلاق التي يحدث فيها ذلك.

أما المرحلة الأخيرة فقد شهدت تدريبات عسكرية صينية في البحر الأصفر شمال تايوان، أما الهدف من هذه الخطوة فهو إظهار قدرة الجيش الصيني على منع أي قوات أمريكية متمركزة في اليابان أو كوريا الجنوبية من الوصول إلى تايوان لتقديم الدعم وقت الأزمة.

تايوان
رئيس الصين شي جين بينغ – رويترز

وهذه المرحلة الأخيرة تبدو موجهة بشكل مباشر إلى إدارة بايدن، في ظل ما أعلنه الرئيس نفسه من أن "أمريكا مستعدة للتدخل عسكرياً للدفاع عن تايوان إذا ما هاجمتها الصين"، رغم أن البيت الأبيض سارع بالتخفيف من "زلة لسان" بايدن وأعاد التأكيد على التزام واشنطن بسياسة "الصين واحدة".

هذه التدريبات الشاملة غير المسبوقة، والتي جرت داخل مياه وأجواء تايوان نفسه، أعطت الصينيين مزيداً من الثقة بطبيعة الحال واطمأنوا تماماً لمدى قدرتهم على تنفيذ ضم الجزيرة بالقوة إذا ما استدعت الأمور ذلك، ولا يعني هذا بالضرورة أن بكين ستهاجم تايبيه الآن، فالوقت يمكن استخدامه في تكريس الأمر الواقع الجديد وسد أي ثغرات قد تكون ظهرت للقادة الميدانيين في الجيش الصيني خلال التدريبات.

ماذا استفادت أمريكا وتايوان من الزيارة؟

لا شيء على الإطلاق، بحسب أغلب الخبراء والمحللين؛ إذ لم تحرك إدارة بايدن ساكناً بينما غيَّرت الصين الأمر الواقع في تايوان فعلياً، هذه واحدة. وتسببت تداعيات الزيارة ورد فعل الصين في تفكير عدد كبير من الشركات الأمريكية في مغادرة تايوان بسرعة، وبدأ بعضها بالفعل في ذلك، بحسب تحليل فورين بوليسي، وعلى الطريق باقي الشركات العالمية، خوفاً مما قد يحدث على المدى القصير، ولا تملك الإدارة الأمريكية أن تقدم لهم أي ضمانات للبقاء.

لكن ربما يكون أحد أبرز تداعيات تلك الزيارة مرتبطاً بكفاءة أجهزة الاستخبارات الأمريكية وقدرتها على توقع رد الفعل الصيني بدقة، أو بمعنى أكثر شمولاً، قدرتها على وضع سيناريوهات أقرب للواقع في موقف مشتعل قد يؤدي إلى الحرب. إذ لم يختلف الأداء الاستخباراتي الأمريكي كثيراً في حالة تايوان عن فشلها فيما يتعلق بالهجوم الروسي على أوكرانيا أو صمود الجيش الأفغاني، المدرب والمسلح أمريكياً، في وجه طالبان عقب الانسحاب الأمريكي.

ففي الحالة الأوكرانية، توقعت الاستخبارات الأمريكية أن يتمكن الجيش الروسي من السيطرة على أوكرانيا بشكل كامل خلال أسابيع قليلة، وهو ما لم يحدث، سواء بسبب "التخطيط السيئ" من جانب قيادات موسكو، كما يرى أغلب المحللين الغربيين، أو بسبب أن أهداف روسيا العسكرية لم تكن أصلاً تشمل السيطرة على جارتها بشكل كامل، بحسب الرواية الروسية.

الصين أمريكا تايوان
الجيش الأمريكي /رويترز

لكن في كل الأحوال، وضعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية سيناريوهات متعددة لم يتحقق أي منها على أرض الواقع بعد مرور أكثر من نصف عام من اندلاع الحرب الأوكرانية بالفعل. وما يزيد الأمر سوءاً هو قيام إدارة الرئيس جو بايدن بنشر تلك التقارير الاستخباراتية بشأن النوايا الروسية في أوكرانيا، على عكس ما يفترض أن يقوم عليه عمل الجواسيس وهو السرية.

وفي حالة أفغانستان كان الأمر أكثر سوءاً، إذ توقعت المخابرات الأمريكية أن يتمكن الجيش الأفغاني من الصمود أمام طالبان لعدة أشهر، بينما ما حدث هو أن طالبان تمكنت من السيطرة على البلاد وهزيمة الجيش الأفغاني قبل حتى أن يكتمل الانسحاب الأمريكي من البلاد أواخر أغسطس/آب 2021، وهو ما أدى إلى "الهرولة" الأمريكية وأعاد للأذهان مشاهد الانسحاب الأمريكي من فيتنام قبل عقود.

أما تايوان فقد وجدت نفسها خلال ساعات محاصرة بشكل شبه كامل دون مياه أو أجواء إقليمية خاصة بها، والأسوأ هو ما تواجهه الآن من هرولة الشركات الأمريكية والعالمية لمغادرة الجزيرة خشية اندلاع الحرب. فالصين منعت سفن الشحن والطائرات الميدانية من التحليق أو الإبحار في مضيق تايوان، دون اعتراض أو حتى تحركات أمريكية أو غربية لإظهار استعداد حقيقي لتحدي الصين عسكرياً. نعم، الغرب يقدم الدعم المعنوي لتايوان من خلال البيانات والتصريحات وربما الزيارات الرسمية، لكن اعتبار تايوان دولة ذات سيادة غير وارد بالمرة.

وظهرت هذه الحقيقة واضحة تماماً من رد فعل دول شرق آسيا، وبخاصة، الهند، التي لم تأتِ على ذكر تايوان أصلاً في بياناتها التي انتقدت بكين بسبب "تعطيل ممرات الشحن البحري" لإجراء تدريبات عسكرية.

الخلاصة هنا هي أن تلك الزيارة غير المبررة من جانب بيلوسي، والتي قيل إن هدفها إظهار الدعم لتايوان، قد تسببت في تقليص هامش الاستقلال الذي كانت تتمتع به الجزيرة، كما قدمت للصين "خدمة العمر" من خلال إجراء بكين "بروفة عملية بالذخيرة الحية" للسيطرة على تايوان، دون أن "ينتفض" العالم أو يتهمها بتغيير الوضع الراهن، الذي تغيَّر بالفعل وإلى غير رجعة.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram