مع أن تأليف الحكومة، كما الدوران من حول حكومة تصريف الأعمال، يتصدّران واجهة الاهتمامات والسجالات، ومن خلالها التأويلات والتوقّعات، إلا أن معظم الأفرقاء باتوا الآن - أو يكادون - في فلك الانتخابات الرئاسية الوشيكة.
المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية على الباب. تبدأ بعد شهر ونصف شهر. ملزم انتخاب الرئيس في خلالها في حد أقصى شهران، إلا أن موعدها الإجرائي لا يبدأ بالضرورة منذ يومها الأول. ربما تحتاج إلى استنفاد معظمها وأحياناً كلها. قد يحدث - وقد حدث بالفعل ثلاث مرات قبل اتفاق الطائف وبعده - أن تمر من دون أن يُنتخب الرئيس الجديد. لكن يحدث أيضاً بعد أن تنقضي، وتطوى عندئذ صفحة احترام الدستور والتزام أحكامه، انتخاب الرئيس خارجها كأمر واقع فلا ينشأ إذَّاك عن واقع دستوري طبيعي.
الأفرقاء جميعاً يتحدثون في الوقت الحاضر، بقليل من الاهتمام بتأليف حكومة جديدة أو بعث الروح في حكومة تصريف الأعمال، عن الانخراط في الاستحقاق الرئاسي شبه الموضوع كلياً بين يدي فريق واحد، هو الثنائي الشيعي. يتقاسم دوريْه رئيس البرلمان نبيه برّي والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. لدى الأول، الصلاحية الدستورية الحصرية لتوجيه الدعوة إلى انتخاب الرئيس بحسب المادة 73، من اليوم الأول في المهلة الدستورية (الساعة الصفر منتصف ليل 31 آب)، إلى الساعة الصفر ليل اليوم الذي يسبق اليوم العاشر لانتهاء المهلة عندما يصبح المجلس في انعقاد حكمي بلا دعوة. أما لدى الثاني، فإدارة الاستحقاق الرئاسي بما يمثّل من فائض قوة في الداخل يمكّنه من أن تكون له الكلمة الفصل في كل ما يحدث في البلاد. لا يحتاج فائض القوة إلى أدلة إضافية، كان آخر مظاهرها مساء الأربعاء المنصرم.
ليس ثمّة قيد يلزم رئيس المجلس بتوجيه الدعوة إلى جلسة انتخاب الرئيس في اليوم الأول للمهلة الدستورية، ولا في الأسبوع الأول ولا في الشهر الأول حتى، إلا أنها واجبة قبل اليوم العاشر لانتهائها قبل أن يفقد الصلاحية هذه. لذا غالباً ما غدا توجيه الدعوة ثمرة جهود يبذلها رئيس المجلس -ذلك ما كان يحصل قبل اتفاق الطائف - لتوفير أوسع توافق على رئيس جديد للبلاد، كما على إدارة الاستحقاق بين متنافسين. أما ما لدى توأمه الآخر، وهو حزب الله، فيكاد يكون الفريق الوحيد الذي له مرشحان علنيان لرئاسة الجمهورية دونما أن ينبري أحد، من بين سائر الأفرقاء الآخرين، يجهر بأن لديه من الآن مرشحاً للرئاسة المقبلة. البعض من حول مرشحين دوريين، يوصفون في الغالب طبيعيين، يأتون على ذكرهم أو يوحون بترشحهم.
قبل الانتخابات النيابية العامة المجراة في 15 أيار الفائت، افتتح الانخراط في الانتخابات الرئاسية في الإفطار الذي جمع فيه نصرالله النائب جبران باسيل والنائب السابق سليمان فرنجية، المرشحيْن الشمالييْن المتنافسيْن، حليفيْ حزب الله وفي الوقت نفسه العدوّيْن أحدهما للآخر، في 8 نيسان، وتحدثوا في ما سيلي الانتخابات النيابية الشهر التالي. مذّاك نُظر إلى هذا اللقاء على أنه صفّارة انطلاق. عزّز هذا اليقين عبارة أطلقها بعد أقل من شهرين، في 22 أيار، باسيل في مهرجان إعلانه الانتصار في الانتخابات النيابية، بأن وصف فرنجية بأنه «يبقى أصيلاً». كانت العلامة البارزة بأن ثمة ما حدث بينه وبين خصمه في ضيافة نصرالله.
لأنّ كليهما مرشحان، ولأنهما - وقد يكون ذلك مؤلماً ومحزناً أكثر - يستمدان قوتيْهما في الانتخابات النيابية وتحالفاتها وتأليف الحكومات كما في المعادلة السياسية وتوازن القوى الداخلي من نصرالله وحزبه، يصبح من الطبيعي الجزم بأن حسم تنافسهما بين يدَي المرجعية تلك، المعتادة على فضّ خلافات فريقيْهما. فعلت ذلك عام 2015 عندما رشّح الرئيس سعد الحريري فرنجية للرئاسة، فغلّب حزب الله كفة ترشيح الرئيس ميشال عون على كفته. تراجع الثاني وتقدّم الأول وترأّس الجمهورية.
حينما التأم الإفطار الثلاثي لم يُفصَح عن مداولاته في ما بعد، ما خلا إشارات عابرة تناولت الانتخابات الرئاسية والنيابية وسواهما. بانقضاء وقت على اجتماعهم، واقتراب موعد الاستحقاق، ورسائل الود والانفتاح المتبادلة بين الحليفيْن اللدودين، يصير متاحاً أكثر من ذي قبل، وربما ضرورياً، الكشف غير المباشر عن بعض ما جيء عليه في الإفطار.
فيما قيل إن اللقاء الثلاثي طَرَقَهُ، مخاطبة نصرالله باسيل وفرنجية معاً بالقول إن الانتخابات الرئاسية المقبلة يوليها حزب الله أهمية كبرى، خصوصاً مع قرب ولوجهما الانتخابات النيابية. إلا أنه جزم لهما أن الحزب حريص على أصدقائه وحلفائه والوقوف إلى جانبهم.
قال إن كليْهما حليف له. سبق أن التزم الوقوف إلى جانب عون، وعندما التزم الحزب الوقوف إلى جانبه كان برضى فرنجية. اليوم الحزب أمام التزام جديد حيال فرنجية، يريده أن يحصل برضى باسيل على نحو ما حدث قبل ست سنوات.
ما نُقل عن نصرالله قوله: إذا لم يُنتخب فرنجية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد لا تسنح له الفرصة في ما بعد، في حين أنها تُسنح لباسيل.
أضاف مخاطباً رئيس التيار الوطني الحر: اقتراحنا أن تكون الرئاسة المقبلة لفرنجية، على أن تكون أنت شريكاً كاملاً في العهد المقبل. يحقق لنا ذلك هدفين هما شراكتك في المرحلة المقبلة ووقوفك إلى جانب الرئيس، وتكون وقتذاك أعدت مراجعة موقع التيار ودوره ورددت عنك كل ما تعرّضت إليه في الآونة الأخيرة.
جواب باسيل كان نصف موافقة نهائية، في انتظار أن يحمل هذا الخيار في الوقت المناسب إلى التيار الوطني الحر لإجراء مناقشة له، في نهاية المطاف لن تقف حجر عثرة في طريق قرار الأمين العام لحزب الله.
لم يطل الحديث في الاستحقاق الرئاسي سوى دقائق. من بعد استغرق الإفطار الطويل في ملفات محلية وإقليمية تجاوزته. أنبأ موقف نصرالله أنه حسم إلى حد بعيد، تبعاً للمعطيات القائمة حتى هذا الوقت، دعمه ترشيح النائب السابق لزغرتا الذي لا يصطدم حكماً بجدران اعتراضات أساسية أو مانعة. عام 2015 أيّده بعد ترشيح الحريري له، برّي ووليد جنبلاط. لا ينتظر حزب الله موافقة حزب القوات اللبنانية ولا يحتاج إليها. انضمام باسيل إلى هذا المعسكر، بعد أن يجتمع من حول ترشيح فرنجية الحلفاء، يجعل انتخابه حتمياً من الدورة الثانية للاقتراع بالأكثرية المطلقة، بعد أن يكون التأم في القاعة 86 نائباً، هم غالبية الثلثين المقيِّدة لافتتاح الجلسة وإجراء دورات الاقتراع المتتالية.
لا أحد من الأفرقاء يتحدث من الآن عن احتمال مقاطعتها. في أحسن الأحوال يُبدون براءتهم والنية الحسنة على الأقل.
أمّا ما يكمن في صلب إرادة حزب الله ترشيح فرنجية، فهو سعيه ـ ويتردّد أنها خطته المقبلة بدأ أول تباشيرها ـ إلى أن يحوط به أوسع تأييد سياسي. انفتاح التيار الوطني الحر على جنبلاط، ومن بعد لقاء اللقلوق بين باسيل والنائب فريد الخازن، أضف إلى ذلك ما يُنتظر من خطوات مماثلة في مواعيد لاحقة، كلُّ ذلك ليس سوى حلقات في سلسلة.
نسخ الرابط :