لا تزال الصورة ضبابية بالنسبة إلى الإنتخابات النيابية المقبلة. صحيحٌ أن مرسوم دعوة الهيئات الناخبة قد وُقّع بشطوره الرسمية كافة، لكن من قال أنه وبمجرد التوقيع تصبح المواعيد نافذة؟
قبل مدة قصيرة، أجرت شركة إحصاء غير محلية لمصلحة إحدى السفارات الغربية الكبرى، إستطلاعاً للرأي شمل فئات شعبية معيّنة تحديداً ضمن المناطق المسيحية، لمعرفة مدى تأثير "قوى التغيير" المسمّاة "بدائل" لدى الشرائح الشعبية منذ فترة انطلاقتها وحتى الآن، فكانت النتيجة مخيّبة إلى حدٍّ ما ربطاً بالآمال المعقودة عليهم، وعلى الأغلب الأعمّ لم تأتِ النتائج على سجية طموحات "المشغّل" برفد مجلس النواب بكتلة لا يقلّ عدد سكانها عن 20 نائباً من فصيلة DNA – ثورجي، مع ما يعنيه ذلك من كتلة وازنة قد تحجز تمثيلها فوراً في أي حكومة مقبلة.
طبعاً، مثل هذا الحدث لا يمكن تجاوزه من دون تعليقات، وقد ساد ظنٌّ بعدها أن وتيرة العمل "خفيفة"، أو أن القدرات المُتاحة لتلك المجموعات من أجل النشاط غير كافية، لكن ما كان أكثر جاذبية، إعتقاد الأوساط المتابعة لمجرى عمل القوى تلك، أنها بحاجة إلى فترة زمنية إضافية كي تُعبّر عن ذاتها بطرق أفضل، هذا إلى جانب خلاصة كانت أشارت إلى ضرورة تحفيز تلك المجموعات وزيادة حجم انخراطها ضمن المجتمعات لمحاولة فرض التأثير السياسي بنسبة أكبر.
بناءً عليه، ساد ظنّ أن موعد الإنتخابات المقبلة، وإن جرى حسمه مبدئياً على الورق، إلاّ أنه غير صالح للإستخدام بعد، وقد تجد تلك السفارات ومن ورائها الدول، أن الفترة المتبقية لا تكفي من أجل تحقيق الطموحات لإدخال متغيّرات على الجسم النيابي، وبهذا المعنى قد تتوفر ظروف التأجيل أكثر، وبالتالي، لا مشكلة إن عُقدت التسوية مع مجموعات داخلية على تأجيل الإستحقاق الإنتخابي لمدة معينة (غير طويلة)، طالما أن قوى السلطة نفسها قد تجد مصلحةً لها في التأجيل أيضاً، تأسيساً على الخلل الإقتصادي الحاصل، ولعلمها المسبق بتراجع قيمة موجوداتها في الصناديق، ولمحاولة الضغط على الدول الخارجية كي توفّر مقوّمات تصلح للإستخدام في المسار الإقتصادي، لتحسين شروط القوى التي ستخوض الإنتخابات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. من هنا، كان الكلام الأخير لرئيس مجلس النواب نبيه بري لافتاً، وملؤه إشارات حول مستقبل الإستحقاق الإنتخابي، حين عبرّ عن "صورة رمادية" تتّصل بتداعيات عزوف الرئيس سعد الحريري، عن الترشّح للإنتخابات، على مستقبل المجلس النيابي المقبل، في ظلّ انكفاء القوى السياسية السنّية الأساسية وفق منظوره.
في مكانٍ آخر، لا بد من إيجاد مساحة اعتبار للمفاوضات الجارية في الإقليم والمتعدّدة الهويات ودرس تأثيراتها منذ الآن على الإستحقاق اللبناني المنتظر، أي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والقوى الدولية في فيينا، أو بين طهران والرياض في بغداد لاحقاً، أو بين قوى أخرى من ضمنها سوريا والحالة اليمنية بطبيعة الحال، ولا بدّ من درس نتائج كل ذلك على الإستحقاق. ففي النتيجة، إن عدم الإتفاق في الإقليم سيرخي بظلاله على الداخل. ومع تنشيط النزاعات كيف بمقدور القوى السياسية (تقليدية وبديلة) قيادة عملية "انتقال سياسي محلي" طالما أن الإقليم لا يزال يتنازع ولم تتّضح صورته بعد؟ ربطاً بذلك، قد يجد البعض أن تأخير الإستحقاق النيابي لفترة محدودة وضمن رزمة تفاهمات "منسّقة" داخلياً وخارجياً، هو السبيل الأمضى لتوضيح مستقبل الحالة اللبنانية. وهنا، يجدر أن لا نستبعد كثيراً العامل الإقتصادي الداخلي وتأثيراته السياسية على النظام وشكله تحديداً، والذي لا يستثني بتأثيراته موضوع الإنتخابات المقبلة. إذاً، فمعادلة تطيير الإنتخابات النيابية لا تزال "إجراءً متوقعاً" في ظل الإنسداد السياسي الحاصل ومؤشّرات الإنهيار المتصاعدة.
بناءً عليه، وجد أكثر من طرف سياسي اليوم ضرورات من أجل الإنكفاء عن الإستحقاق النيابي. في السابق، إنكفأ كل من رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لأسباب متعددة، منها ما يتّصل بطبيعة التمهيد للخليفة السياسية، ومنها ما يتصل بظروف الإستحقاقات: فرنجية يطمح للرئاسة، وجنبلاط يسعى لتوريث على البارد، أما اليوم فيدرس الرئيس سعد الحريري إنكفاءه إلى جانب انكفاء شخصيات أخرى من أوزان سياسية متعددة، كـالنائب سمير الجسر في تيار "المستقبل"، والنائبان الياس بو صعب و روجيه عازار ضمن "التيار الوطني الحر"، ومروان حمادة لدى الحزب التقدمي الإشتراكي، وربما رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، إلى جانب الرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام بيروتياً، ووزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق، ولعل الإستثناء الوحيد يبقى بوضعية الرئيس نبيه بري غير القابلة للعزل، فهل ينضمّ النائب جبران باسيل إلى هذه السلسلة مترامية الأطراف؟
في الواقع، قد يكون هذا الإحتمال ممكناً ربطاً بالوضعية السياسية الحالية، وكحال النائبين بو صعب وعازار، ثمة من يهمس في أذن "جبران" للتراجع عن احتمال خوض الإنتخابات المقبلة لأسبابٍ متعددة، ومنها ما يتّصل بوضعية الإقتراع ونسبته في ظل اعتقاد غالبية الأطراف الحزبية، أن نسبة الإقتراع ستكون منخفضة، إلى جانب وضعية الصوت الإغترابي الذي ضُمّ إلى الدوائر الـ15، ففرض تأثيرات غير محدودة، سيّما في الدوائر المسيحية ولعلّ أولها الشمال 3. إلى جانب ذلك، ثمة أسباب أخرى غير سهلة. فمثلاً، إختار بو صعب الإنكفاء لأسباب تتصل بوضعية "التيار" والعهد بالنسبة إلى الخليج والخارج، أما عازار فقد ابتعد رضوخاً أمام مطالب عائلته وتتصل بوضعية العقوبات الأميركية المقبلة، والرغبة في تحييده عن "الموجات التصاعدية".
بالنسبة إلى جبران، فإن خوضه الإنتخابات ضمن دائرة الشمال الثالثة من دون ضمان نتائج بلوغه المراتب الأولى على صعيد الدائرة، ستجلب له المتاعب. فصحيح أن جبران قد يفوز من ضمن المقاعد العشرة المخصّصة لكن ثمة فرق ما بين أن تفوز في المرتبة الأولى أو الثانية، وبين أن تفوز في الخامسة أو السادسة أو حتى العاشرة! ففي النتيجة أنت مرشّح جدي إلى رئاسة الجمهورية. تبعاً لذلك، ثمة من رصد محاولات لـ"ضرب جبران" في عمق دائرته. فإن لم ينجح بإسقاطه بما يمثّل في البترون كدائرة صغرى، فعلى الأقل "تشويه فوزه" على مستوى الدائرة الكبرى، والتشويه هذا يستهدف القضاء على مستقبله كـ"مرشحٍ قوي" لرئاسة الجمهورية إلى جانب التشوّهات التي اعترت إسقاط العقوبات عليه. بناءً على ذلك، يخوض باسيل جدياً في مجال درس دخوله غمار الإنتخابات من كافة الجوانب تحت عنوان: يا قاتل يا مقتول".
نسخ الرابط :