ليس في جعبة خصوم المقاومة في لبنان غير شعار واحد: السلاح هو مصدر مشكلات لبنان. والشعار، هنا، لا يُرفع بقصد القيام بحملة عسكرية لبنانية لنزع السلاح بالقوة، ولا حتى لمفاوضة المقاومة على تسليم سلاحها، بل لغايتين:
الأولى، اعتبار أن لبنان لا يواجه أي مشكلة على صعيد إدارة المؤسسات والمرافق العامة، وأن الأمور كانت تسير بشكل ممتاز، وأن سلاح المقاومة هو سبب الانهيار الاقتصادي والمالي والمشكلات المعيشية والاجتماعية، وحتى الخلافات العائلية.
الثانية، القول إن قيام سلطة سياسية مستندة إلى شرعية شعبية، ولو بسيطة، سيساعد في فرض قواعد عمل تجعل هذا السلاح خاضعاً، بصورة أو أخرى، لمعايير هذه السلطة. بالتالي، فإن العجز عن نزع السلاح لا يمنع تعطيله.
في الحالة الأولى، يحصل الاجتماع الذي نراه اليوم من أركان المؤسسات الاقتصادية والمالية الذين انتفعوا وسرقوا ونهبوا خلال خمسين وستين وسبعين عاماً، ولا يريدون لأحد أن يحاسبهم. هؤلاء كانوا من الفريق الذي ساهم في جعل أي تحرك شعبي ينتهي إلى ما انتهى إليه حراك 17 تشرين، ببضعة مجانين أو مضللين يسيرون في مواكب من عشرات الأشخاص رافعين لافتات تدعو إلى مواجهة الاحتلال الإيراني. صحيح أن السفيرة الأميركية دوروثي شيا تواظب على معاتبة هؤلاء لكونهم لا يحشدون كفاية، ووصل الأمر بها حد توبيخهم قائلة: لقد اجتمع حول صهريج مازوت أدخله حزب الله إلى لبنان أضعاف ما جمعته 16 جمعية تأخذ المال بحجة أنها تقود حرب الاستقلال في وجه الاحتلال الإيراني!
هذا التحالف لا يهتم بأي أمر آخر. كل استحقاق انتخابي يشهده لبنان، في نقابات المهن الحرة أو القطاعات والمؤسسات العامة، سيجري تحويله إلى مناسبة لرفع هذا الشعار، ولتقديم البند المتعلق بالمقاومة على أي عنوان آخر. أكثر من ذلك، فإن هذا الجناح من اليمين اللبناني الأكثر انعزالية وعنصرية، يرفض رفع الشعارات الإصلاحية التي تنادي بتغيير آليات تفكير وعمل النظام الاقتصادي والمالي في لبنان، ويعتبر من يرفع هذه الشعارات حفنة من اليسار البائد تعمل لتعمية الجمهور وتحييد الناس عن معركة تطهير لبنان من الاحتلال الإيراني (يقول ديبلوماسيون غربيون إن بعض اللبنانيين يحملون إليهم خرائط يشرحون فيها ما يعتبرونه التوسع الدائم للنفوذ الإيراني في لبنان ويحذرون من أن استيلاء إيران على لبنان بصورة كاملة قد يجعل شاطئ لبنان معبراً للنفوذ الإيراني نحو بلاد الغرب).
في الحالة الثانية، هناك قوة سياسية كبيرة لديها برامجها التي لم تتغير منذ قامت. وإذا كانت «القوات اللبنانية» تتقدم هذا الفريق اليوم، فإن ذلك لا يعني أنها وحيدة. إذ توجد معها في الخندق نفسه قوى كثيرة، بينها خصومها من حزب الكتائب وبقايا أحزاب الجبهة اللبنانية، إلى حلفاء الضرورة مثل تيار «المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي، وصولاً إلى شخصيات مستقلة تخشى تقدم خطاب «القوات» سياسياً بين المسيحيين. وكل هؤلاء يعتقدون أن في الإمكان قلب الطاولة على المقاومة من خلال خوض الانتخابات النيابية بطريقة مختلفة، وبما يسمح بالفوز بأكثرية نيابية تنتج سلطة جديدة تواجه حزب الله.
في الحالتين، يقف الخارج أمام معضلة مركّبة. وهو خارج ممتد من معارضين سوريين مستعدين لتقديم العون إلى خصوم حزب الله في لبنان، إلى «انعزاليي العراق» الذين يحتلون مقاعد في السلطة والمعارضة، مروراً بمجانين ممالك القهر والموت في الخليج العربي وصولاً إلى أوروبا وأميركا. وهذا الخارج لا يرى في الأمر سوى كيفية محاصرة المقاومة بهدف تعطيلها أو ضربها. والتباين بين هذه الدول ليس حول جدول الأعمال، بل ربما حول الأسلوب. فبينهم من يعتقد أن جر المقاومة إلى حرب أهلية سيقضي على شرعية المقاومة التي تحمي سلاحها، ومنهم من يعتقد أن في الإمكان تعبئة الناس وحشدهم في المعركة الانتخابية. وفي كل الأحوال يظهر هذا الخارج استعداده لدعم القوى المحلية التي تشاركه هذا الهدف. والدعم هنا يشمل كل شيء خصوصاً التمويل المطلوب، وإن كان هذا الخارج لم يعد يقدم مالاً من دون رقابة أو محاسبة أو تدقيق في النتائج.
ما سبق يشير إلى حقيقة وحيدة، وهي أن التعبئة ضد المقاومة وسلاحها ستكون أكثر قوة وقساوة كلما اقتربنا من الاستحقاق الانتخابي. كما يعني أن كل شخصية أو جمعية أو جهة أو حزب لا ينضم إلى الجبهة المعارضة للمقاومة سيكون هدفاً للحصار والتشويه والضرب. ولكم في العقوبات الأميركية والحصار الخليجي مثل على ما يمكن أن يقوم به الخارج المهتم فقط بإضعاف المقاومة، ليس خشية من ثباتها في لبنان، بل لكونها باتت قادرة على الفعل النوعي في الساحات الأخرى، من فلسطين نفسها إلى سوريا والعراق واليمن وربما أماكن أخرى من العالم العربي.
مواجهة هذه الحرب المجنونة لن تكون ممكنة من دون الحفاظ على الهدوء والحذر والتصرف بحكمة كما تفعل قيادة المقاومة. لكنها تحتاج أيضاً إلى تعبئة مضادة، تقوم على فكرة أننا لم نعد قادرين على العيش مع عملاء ومرتزقة في مكان واحد. أضف إلى ذلك أن المقاومة يقفون أمام استحقاق تقديم تصور مختلف عن شكل بناء دولة أكثر قدرة على مواجهة المشكلات القائمة. وهذا يتطلب النظر منذ اللحظة، ليس في تحالفات الانتخابات النيابية، ولا في حصر الموقف من الخصوم بما يقولونه حصراً حول سلاح المقاومة، بل إن التحدي الرئيسي يتعلق بتصور خاص لما يمكننا القيام به من أجل بناء دولة من نوع مختلف. وهي مهمة تدرك المقاومة أنها غير ممكنة من خلالها فقط، ولا يجوز أصلاً التفكير بأنها مهمة ملقاة على عاتقها وحدها. بل هي مهمة تتطلب شراكات وتحالفات من نوع مختلف، وهي شراكات متوافرة إن أحسن القوم التعامل مع الموقف تفصيلياً وحالة بحالة. وهي مهمة تتطلب مراجعة نقدية قاسية، ولكن ضرورية، للمحاسبة المسبقة على جزء من الأخطاء التي ارتكبت في العقد الأخير على وجه الخصوص. ما يعني ضرورة إعادة النظر في آليات بناء التحالفات واختيار المرشحين وتحديد عناوين الحملة الانتخابية.
هدف هذه المراجعة ليس مواجهة المجانين الذين لا يملكون غير الشتائم أو الهذيان كما يفعلون ليل نهار، بل الهدف منها إيصال الصوت إلى كتلة وازنة من اللبنانيين. الكتلة التي تحلم، وهذا حق لها، بدولة طبيعية، فيها الحد الأدنى من مقومات العيش، وفيها ما يكفي لتوفير حاجات الناس في مجالات التعليم والصحة والسكن والعمل... وهو أمر يمكن القيام به، فقط، إن اتخذنا القرار المناسب والجريء بضرورة حصول المراجعة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :