ابراهيم الأمين
بعد عام على دخول لبنان زمن الوصاية الأميركية - السعودية، يقف اللبنانيون أمام حالة فقدان واضح للتوازن. فلا تفاهمات فعلية بين القوى الموجودة في السلطة، ولا بديل مطروح لصيغة الحكم التي كانت قائمة قبل الحرب. والأخطر من ذلك، غياب أي استراتيجية واضحة لدى اللاعبين الداخليين والخارجيين تجاه مستقبل لبنان نفسه.
بعد عام، يتبيّن بوضوح أنّ الجديد النوعي يأتي هذه المرّة من «المغامرين الجدد» في الولايات المتحدة. توم براك، أحد أبرز أعضاء «نادي الصفقات» الذي أتى به دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يبدو الأكثر صراحة في التعبير عن الحلول الأنسب من وجهة نظر إدارته. فهو يجاهر بما يقوله الأميركيون وغيرهم منذ زمن: لبنان دولة فاشلة، غير قادرة على إدارة شؤونها بنفسها. وهو الموقف نفسه الذي ردّده محمد بن سلمان مراراً كلّما فُرض عليه النقاش حول لبنان.
والمشترك اليوم بين الأميركيين والسعوديين هو قناعة راسخة بأن الوصاية التي يحتاجها لبنان لا ينبغي أن تتورط في التفاصيل. وليست الغاية من ذلك تفويض جهة محددة بإدارة البلد، بل التملّص من أي مسؤولية عمّا سيحدث: لا مسؤولية الإنفاق المالي، ولا مسؤولية الانهيار والتشظّي الأهلي، ولا مسؤولية الانفجار واحتمال انزلاق اللبنانيين إلى حرب أهلية جديدة.
يتقاطع الأميركيون والسعوديون عند قناعة مفادها أنّ الجهة التي يجب أن تتولّى إدارة شؤون لبنان هي الأقرب إليهما. وهذا ما يقود إلى جوهر الطرح الذي يقدّمه براك لكلٍّ من إسرائيل وسوريا. فهو يعرض عليهما صفقة لتنظيم العلاقة بينهما، تتيح لكلّ منهما لعب دور محدّد داخل لبنان. في هذا السياق، يعود براك إلى فكرة «تلزيم» لبنان إلى جهة قادرة على فرض الحلول والخيارات.
وإذا كانت إسرائيل تركّز على الجانب الأمني في الملف اللبناني، فقد منحتها واشنطن كل الهامش اللازم لتحقيق أهدافها، بالقوّة أو بغيرها. أما الولايات المتحدة، فترى أن جوهر المعركة يكمن في من يمسك بالقرار السياسي في لبنان، وفي ربط اقتصاده وسوقه المالية بسوريا. ومن هنا، تفترض واشنطن من جهة، والرياض من جهة ثانية، أنّ «سوريا الجديدة» يجب أن تلعب الدور الحاسم في هذا المسار.
غير أنّ براك، الذي يقود شخصياً مشروع النسخة الجديدة من أحمد الشرع، يضع نصب عينيه هدفاً أوّلياً: تثبيت حكم الأخير في سوريا. وهو يبذل كل ما يمكن سياسياً واقتصادياً لترسيخ قواعد هذا الحكم. وبراك، المعروف بصراحته المفرطة، لم يتردّد في أكثر من مناسبة في التأكيد أنّ إدارته لم تعد معنيّة بالشعارات البراقة التي دأب الغرب على تردادها. ويمضي أبعد من ذلك حين يعلن بوضوح أنّ دول المنطقة، ومنها لبنان وسوريا، لا تحتاج إلى ديموقراطية، بل إلى «حاكم مستبد ومستـنير»، وهي العبارة نفسها التي استخدمها ترامب لتبرير طبيعة الأنظمة الحاكمة في دول الجزيرة العربية.
في لبنان، يسعى الأميركيون إلى فرض سلطة تُدير البلاد بالقوة. وهذا ما فكّروا به حين اختاروا جوزيف عون لرئاسة الجمهورية. لكن سرعان ما بدأ التململ تجاهه بعد أن أبلغهم بوضوح أنّ تنفيذ مطلبهم بنزع سلاح حزب الله بالقوّة قد يجرّ البلاد إلى حرب أهلية واسعة، «وهذا ما لا نريده ولا نقدر عليه». ويساند عون في هذا الموقف عدد من أركان الحكم وقيادة الجيش، الذين يضيفون أنّه لا يوجد في لبنان من يرغب فعلاً في العودة إلى الحرب الأهلية.
تُظهر قوى يمينية لبنانية استعداداً للعب دور يساعد
في حرب إسرائيل لنزع سلاح المقاومة وفرض التطبيع وتتجاهل التصوّر الأميركي لدور «سوريا الشرع» في لبنان
وعند هذا الحد، يبرز في الساحة من يطرح الأفكار المضادّة. وليس في الميدان اليوم سوى آخر ورثة اليمين اللبناني، أي سمير جعجع وحزبه الذي لا يزال يعيش على إرثه العسكري. فأول ما يقوله جعجع إنّه لا يجوز ربط نزع السلاح بالحرب الأهلية، ولا ينبغي تخويف الناس بالحديث عن الحرب إذا جرت المطالبة بنزع السلاح بالقوة. أمّا الحرب الأهلية، في نظره، فهي عمليّة عسكرية تقوم بها السلطة ضد «أقليّة ترفض إطلاق سراح لبنان».
بهذا المعنى، يعود جعجع إلى دفاتره القديمة. وهو كما عجز عن إنتاج قيادات جديدة يعتمد عليها في بناء تنظيمه، يعجز أيضاً عن تقديم أفكار جديدة. بل يبدو متمسّكاً بالأفكار ذاتها التي جرّبها خلال قيادته الميليشيات الأكثر إجراماً في تاريخ لبنان. ويعتبر أن فرض السلطة يستوجب استخدام القوّة، ليخلص إلى أن طرح احتمال اندلاع حرب أهلية على الطاولة ليس إلا ذريعة لعدم تنفيذ قرار نزع سلاح حزب الله.
وفي المناسبة، يمكن للمراقبين والسياسيين الرجوع إلى محضر اجتماع الرئيس نجيب ميقاتي مع الرئيس السوري أحمد الشرع في نهاية العام الماضي.
يومها سأل الشرع ميقاتي عمّا تنوي الدولة فعله في ما يتعلّق بموضوع السلاح، فأجاب ميقاتي بأن الملف يجب أن يُعالَج، لكن من دون الذهاب إلى مواجهة. فقاطعه الشرع قائلاً: طالما أنكم تخشون الحرب الأهلية، فهذا يعني أنكم لا تريدون بناء دولة!
سبحان الله، كيف يحصل هذا التقاطع بين الشرع وجعجع، رغم الهوّة الواسعة بين الرجلين في المنطق والعقيدة والغايات. ومع ذلك، فإن التقاطع في التفكير والتشخيص واختيار الأدوات قائمة دائماً لدى من يفكّر بالطريقة نفسها للوصول إلى السلطة.
في العامين الماضيين، لم تعتمد إسرائيل لحظة على أي جهة لبنانية لمساعدتها في حربها ضد المقاومة. فهي اختبرت سابقاً كل أحزاب الجبهة اللبنانية، وفي مقدّمتهم «القوات اللبنانية»، كما أنها تدرك جيداً واقع المؤسسة العسكرية قبل اتفاق الطائف وبعده. والأهم أن إسرائيل لا توكل مهمتها الأساسية لأحد.
ومع ذلك، فإن فشلها في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية في الحرب الأخيرة يدفعها مجدداً إلى خوض المعركة بأسلوب مختلف. فحين تتحدث اليوم عن الخيار العسكري، تطلب أن يلاقيها أحد في الداخل اللبناني، وهو ما تنتظره أساساً من الولايات المتحدة والسعودية، علماً أن الاستخبارات الإسرائيلية لا تنتظر الضوء الأخضر الأميركي، بل تبادر، بالتعاون مع الإمارات، إلى بناء شبكة علاقات مع شخصيات وقوى لبنانية لحضّها على الدخول في مواجهة مباشرة مع حزب الله، مقابل تقديم الدعم والحماية لمن يخطو خطوات جدية في هذا الاتجاه.
وقد انطلقت العملية بمشروع إسقاط أي محرّم سياسي أو اجتماعي في التواصل مع إسرائيل أو الحديث عن السلام والتطبيع معها. ويقود هذا المسار تحالف سياسي - إعلامي - مالي يبدأ من معراب والنقاش، ويمرّ بأبو ظبي، ولا ينتهي في واشنطن. ولكن «القوات» غير المعجبة بما يقوم به الآخرون، قرّرت تولّي المهمة مباشرة.
فكانت خطوتها الأولى إعلان سحب دعمها للرئيسين عون ونواف سلام، ورفعت سقف المواجهة الداخلية بحثاً عن مكاسب كبيرة في المرحلة التي تسبق الانتخابات النيابية. وفي ظل غياب أي عنوان قابل للتسويق اليوم، لا تجد سوى العودة إلى ملف سلاح المقاومة، وتحميل حزب الله مسؤولية كل ما يصيب البلاد من خراب ودمار وفساد.
وفي هذا السياق جاء الخطاب الأخير لجعجع الذي يبدو أنّ المغامرة التي يريد خوضها لا تقتصر على دعم مطلب إسرائيل بنزع سلاح المقاومة، بل في اعتقاده بأنّ البلاد تمرّ بمرحلة تشبه ما بعد اجتياح عام 1982. من هذا المنطلق، يرى أنّ على حلفاء أميركا وإسرائيل المبادرة إلى الإمساك بكل مفاصل السلطة، واستغلال اللحظة الإقليمية والدولية لإحكام السيطرة. وهو يذهب أبعد من ذلك، إذ يروّج لبرنامج يقود إلى حظر حزب الله بالكامل، وإذا كان شعاره المعلن اليوم يركّز على حظر «الجناح العسكري» للحزب، إلا أنه يدرك تماماً أن المقصود هو حلّ الحزب برمّته.
ويعتبر أنّه كما تعاملت سوريا مع «القوات اللبنانية» عندما أمسكت بلبنان، يفترض بالسعودية وأميركا أن تفعلا الأمر نفسه مع حزب الله طالما تمسكان بالبلاد اليوم. ولا تتوقف طموحات جعجع عند حدود مواجهة حزب الله، بل يعود إلى مشروعه الأصلي: السيطرة على التمثيل السياسي للمسيحيين، مروّجاً لنفسه كقوة أولى وزعيم أول، ويواصل هجومه على التيار الوطني الحر وكل القوى التي تحالفت أو أقامت شراكات سياسية مع حزب الله.
المشكلة في كل ما سبق أنّ جعجع، الذي لا يمانع اجتياحاً إسرائيلياً جديداً للبنان، ولا يرى غضاضة في سيطرة «سوريا الشرع» على أجزاء واسعة من البقاع والشمال، لا يزال متمسّكاً بأحلامه السابقة. فهو يرى أنّ الصيغة الجديدة لواقع لبنان قد تفتح المجال لإعادة الاعتبار لمشروع الدولة المسيحية في القسم الأكبر من جبل لبنان.
هذا هو واقع الحال، وهذه هي صورة الانقسام السياسي الداخلي الذي بلغ ذروة جديدة. وأي نقاش آخر لا يعدو كونه عودة إلى لعبة التخمينات. ومن يريد مواجهة مشروع أميركا وإسرائيل والسعودية وحلفائهم من اللبنانيين، عليه أن يقف في قلب المعركة ضد إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى جرأة اقتحام المشهد الداخلي. وأمامه خيار فعلي واحد: الدولة المدنية، باعتبارها العلاج لأمراضنا الطائفية… ولو إلى حين!
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :