كتب رشيد حاطوم
في دولٍ كثيرة، تكون وزارة الخارجية مرآة الدولة، وميزانها، وصوتها الذي تهمس به في أذن العالم. أمّا في لبنان، فقد تحوّلت المرآة إلى شظايا، والميزان إلى كفّة واحدة، والصوت إلى همهمة حزبية تُغرق ما تبقّى من صورة الوطن. وكأنّ الدبلوماسية اللبنانية خرجت إلى العلن بثوبٍ لا يشبهها: ثوبٌ ضيّق لا يتّسع لاسم الدولة بل لاسم فريق واحد يضع مفاتيحه في درج الوزارة.
إنّ ما يجري ليس تفصيلاً إداريًا ولا سوء تنسيق بين مؤسسات، بل **تصدّعٌ في الفكرة نفسها**: فكرة الدولة ككيان واحد له موقف واحد. فمنبر الخارجية، الذي يُفترض أن يتحدّث لغة البلاد، يتلو اليوم بيانًا آخر… بيانًا كُتب في قاعات الحزبية الضيقة، ثم أُلصق على واجهة الوزارة كأنه كتابها الرسمي.
مَن يتأمّل المشهد يرى أنّ الوزير لا يتصرّف بوصفه حارسًا لبوابة سيادية، بل **ناطِقًا باسم عقيدة سياسية** تبحث عن أدوار أكبر من حجم الدولة نفسها. كأنّه يجرّ لبنان إلى هندسة خارجية جديدة، هندسة لا ترضى بالوسطية التي بناها لبنان عبر عقود، بل تفضّل حافة الهاوية وبريق الاصطفافات.
ووسط هذه الحواف، يتوارى رئيس الحكومة. صمتٌ طويل لا يُدرى إن كان حيادًا أم عجزًا أم رغبة في تفادي الاصطدام. لكن النتيجة واحدة: **الموقف الوطني أصبح بلا سقف ولا جدران**، فتسربت منه ريح الانقسامات الداخلية إلى قلب الدبلوماسية.
إنّ أخطر ما في التحوّل الجاري ليس الضجيج السياسي، بل **الاستسهال**: الاستسهال في التعامل مع موقع سيادي كأنه ملكية حزبية؛ الاستسهال في إلباس الدولة ملامح فكرٍ واحد؛ الاستسهال في إدارة علاقات لبنان الخارجية بمنطق الكسب والخسارة الحزبيَّين. وهكذا، صار لبنان صغيرًا في عيون العالم، يطلّ عبر وزير يتصرّف بوصفه “سلطة مستقلّة” تعلو على البيان الوزاري، لا تحتكم إليه.
الدبلوماسية هنا لم تعد فنًا للمسافات الحكيمة، بل حلبة يرفع فيها كل فريق رايته. وما بين راية الدولة وراية الحزب، ضاعت الحقيقة: **أنّ العلاقات الدولية ليست ملعبًا للاختبار، بل مساحة للاتزان والرصانة والوعي العميق لحساسية الموقع اللبناني.**
ولأنّ لبنان بلدٌ يعيش دائمًا على الحافة، فإنّ انزلاق سياسته الخارجية إلى قبضة فريق واحد يجعل من الوزارة **برج مراقبة أعور** يرى العالم من نافذة واحدة، ويحجب عن البلاد ما تبقّى من فرص التوازن.
بكلمة واحدة:
ليس الخلاف على رأي وزير، بل على **ملكية “اسم لبنان” نفسه… لمن ينطق باسمه؟ ومن يملك حق إلقاء ظله على خريطة العالم؟**
والجواب اليوم أكثر وجعًا مما يظنّ البعض.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :