كتب رشيد حاطوم
في خضم التطورات المتسارعة، تطفو على السطح مجدداً حقيقة مفاوضاتنا مع العدو الإسرائيلي، والتي لا يمكن أن تكون فاعلة أو نزيهة ما لم تُبنَ على أسس العدالة والإنصاف. إن أي حديث عن "مفاوضات" يغفل المطالب الجوهرية للشعب هو محض تمرير لأجندات الأقوى. فجوهر المفاوضات الحقيقي يجب أن ينصبّ على ثلاثة مطالب غير قابلة للتفاوض، تشكل الحدّ الأدنى لكرامة أي شعب: الانسحاب الكامل للعدو من جميع الأراضي المحتلة، ووقف فوري وكامل لجميع الأعمال العدائية، وإعادة كافة الأسرى والمعتقلين إلى أوطانهم دون تأخير.
أولاً: الانسحاب.. شرط السيادة الأولى
لا يمكن الحديث عن سلام دائم أو تفاوض ذي معنى تحت وطأة الاحتلال وبندقية المحتل. لقد أثبتت التجارب أن التفاوض تحت الاحتلال هو تفاوض مُفَضَّل لصالح القوة الغاشمة. لذلك، يجب أن تكون البند الأولى والأخيرة في أي جدول أعمال هو الانسحاب الكامل وغير المشروط للقوات الإسرائيلية من جميع الأراضي المحتلة، وفقاً لحدود دولية معترف بها. السيادة الكاملة هي الإطار الوحيد الذي يمكن أن تُبنى عليه أي علاقة مستقبلية، وبدونها تتحول المفاوضات إلى أداة لتكريس الواقع المفروض بالقوة.
ثانياً: وقف العدائيات.. شرط بناء الثقة
كيف يمكن بناء جسور الثقة المطلوبة لأي حوار سياسي جاد، بينما تستمر الطائرات في اختراق المجال الجوي، وتتوغل القوارب في المياه الإقليمية، ويُستهدف المدنيون؟ إن وقف جميع الأعمال العدائية بشكل فوري ودائم هو الشرط العملي الذي يسبق أي تقدم. هذا يشمل إنهاء كافة أشكال الاستفزازات العسكرية، والاغتيالات، والحصار الجوي والبحري، والعدوان على المقدسات. إن استمرار العدوان هو دليل نوايا، وهو يُفقد العملية التفاوضية مصداقيتها من أساسها، ويجعلها مجرد غطاء لاستمرار الحرب بوسائل أخرى.
ثالثاً: إعادة الأسرى.. واجب إنساني وقضية مركزية
قلب أي صراع هو الإنسان. ولا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي بينما يُقيد الحرية آلاف الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، يعانون من ظروف قاسية وتُحرم منهم أسرهم. إن إعادة جميع الأسرى والمعتقلين ليست مطلوباً تفاوضياً فحسب، بل هو واجب إنساني وأخلاقي وقانوني لا يسقط بالتقادم. هؤلاء الأسرى هم أبناء وأبناء عم وضحايا سياسة اعتقال تعسفية، وقضيتهم ليست ورقة مساومة، بل هي قضية شرف وكرامة يجب أن تكون في صلب أي اتفاق.
المفاوضات الحقيقية تبدأ من هنا
لن يكون لأي محادثات أو اتفاقات وساطة قيمة إذا تجاوزت هذه المطالب الأساسية أو أجلتها. إن الشعب الذي يدفع ثمن الاحتلال والعدوان يومياً، لا ينتظر وعوداً فضفاضة أو تسويات هزيلة. إنه ينتظر تحركاً جاداً يترجم على الأرض: جلاءً كاملاً، وسلماً حقيقياً، وحريةً لكل أسير. هذه ليست شروطاً تعجيزية، بل هي أسس أي حل عادل ودائم. المفاوضات التي لا تبدأ من هذا المنطلق، وتجعل من حقوقنا الثابتة موضوعاً للمساومة، هي مفاوضات لن تقود إلا إلى مزيد من التأجيل والمعاناة. فالعدالة لا تُفاوَض عليها، وإنما تُنَفَّذ.
الوهم القاتل وضرورة لغة القوة
في ظل ما تقدّم، يتبين أن الرهان على استعادة الحقوق من خلال المفاوضات المجردة مع هذا العدو هو ضربٌ من الوهم والخداع الكبير. فالتجربة التاريخية القاطعة، والخطاب السياسي والممارسة على الأرض، تُثبت أن هذا الكيان المجرم لا يفهم لغة سوى لغة القوة، ولا يحترم إلا منطق الردع. إن أطماعه في أراضينا ومقدراتنا وثرواتنا ليست محدودة، ولا تتوقف عند خطّ أخضر أو حدود افتراضية، بل هي أطماع توسعية تترجمها سياسات الاستيطان والاستيلاء يوماً بعد يوم.
وقد جاء التصريح الأخير لرئيس وزراء العدو عن "إسرائيل الكبرى" ليُزيل آخر القناع عن هذه النوايا التوسعية العدوانية، ويُجسد الحقيقة المُرّة: أن هذا المشروع الصهيوني لا يعترف بوجود حقوق لنا، ولا يرى في أي اتفاق سوى محطة مؤقتة لتحقيق مزيد من المكاسب. فكيف يُفاوض من يُعلن بصراحة أن حلمه هو ابتلاع ما تبقى من أرضنا؟
لذلك، فإن الدليل القاطع الذي تُقدمه الوقائع والأقوال يُوجب علينا أن نستخلص الدرس الحاسم: لا يمكن استرداد الحق المغتصب إلا بالقوة التي اغتُصِب بها، ولا يمكن ردع عدوّ مجرمٍ عن أطماعه إلا بلغة يفهمها جيداً: لغة الحديد بالحديد، والنار بالنار. إن طريق المفاوضات تحت ظل الاختلال الفاضح في موازين القوة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التنازل، في حين أن طريق المقاومة والتصدي هو الطريق الوحيد الذي كرّس الحقوق وصان الكرامة وأعاد الاعتبار لإرادة الشعوب. فليس أمام شعب يواجه مشروعاً توسعياً يتربص بمقدراته إلا أن يكون قوياً في موقفه، صلباً في إرادته، جاهزاً لدفع الثمن؛ لأن حرية الأرض واستقلال القرار لا يُمنحان، بل يُنتزعان انتزاعاً.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :