كتب رشيد حاطوم
لبنان… حين يخاف الحكّام من ظلّ الشعب
في هذا الوطن المعلّق على حافة الذاكرة، يبدو أن الشعب يمشي على الأرض، فيما حكّامه يمشون على الغيم.
شعبٌ يلهث وراء قوته، يفتّش في الليل عن بصيص دولة،
وسلطةٌ تهرب من النهار كي لا ترى وجوه الناس.
بينهما صندوق انتخابي واحد… يخشاه الذين اعتادوا على أن يحلقوا تحت أغطية الظلام.
لم يعد السؤال: مَن يريد الانتخابات؟
بل صار: مَن يخاف من الناس حين يقفون صفًا واحدًا أمام صندوق واحد؟
أولاً: نواف سلام والتغييريون… زمنٌ يريد أن يطول
في ظلّ التشقّق بين الرئيس ورئيس حكومته، يظهر “الإصلاحيون” و“التغييريّون” كمن يمدّ عمره على حافة الغروب.
يعرفون أن الزمن الذي حملهم إلى البرلمان كان طفرة غضب،
وأن الموجة التي رفعتهم ليست موجة أخرى بل موجة واحدة…
ومَن يركب الموجة مرّة لا يركبها مرتين.
لذلك يختبئون خلف لغة الدستور،
يعيشون على أنّ التأجيل هو الأوكسيجين الأخير لهم قبل أن ينطفئ الضوء فوق مقاعدهم.
ثانياً: القوات اللبنانية… دهاء الرياح
القوات اللبنانية ليست في وارد الخسارة، لكنها ليست في وارد المغامرة أيضًا.
الحزب الذي يجيد الإصغاء للرياح يعرف أن الانتظار قد يهدي السفينة فرصة نادرة.
فالإقليم يتقلّب، والتحالفات تُصنع على نار ليست هادئة،
ومن عاش سنوات طويلة على حافة المواعيد يعرف أن التاريخ أحيانًا يطرق الباب مرّتين.
لذلك تفضّل القوات أن تنام سنة أخرى في ظلّ الغيم،
على أن تدخل معركة في نهار غير مناسب.
ثالثاً: السُنّة… بحر ضباب تمتدّ أمواجه من بيروت إلى الرياض
في الساحة السنيّة، الضباب كثيف إلى حدّ أنّك لا ترى سوى أصابع القدر.
“المستقبل” واقف على باب العودة، لا يدخل ولا ينسحب.
والرياض تمسك بخيوط المشهد، تنسج جبهة جديدة،
وتعيد فرز الولاءات كما يفرز الصائغُ الذهب من ترابه.
هناك من يريد اقتلاع جذور الحريرية من التربة،
وهناك من ينتظر أن يُزرع غصن جديد.
وفي كلتا الحالتين، الانتخابات الآن مقامرة أكبر من الحسابات.
رابعاً: الحزب التقدمي الاشتراكي… جبل يسمع همسًا لا يُقال
أحداث السويداء الأخيرة وما تلاها من ردود فعل داخل البيئة الدرزية أظهرت هشاشة لا يمكن إخفاؤها:
تململ داخل القاعدة التاريخية،
تساؤلات حول خيارات وليد جنبلاط،
تشقّقات صامتة داخل الصفّ الواحد.
الحزب الاشتراكي يدرك أن الانتخابات في هذا المناخ قد تفقده مقاعد لطالما كانت راسخة في الجبل. لذلك يسعى، ولو بصمت، إلى شراء الوقت:
وقت لترميم الصفوف،
وقت لإعادة تثبيت الشرعية الشعبية،
ووقت لإعادة ترتيب البيت الداخلي قبل مواجهة صندوق قد لا يرحم.
جنبلاط—المايسترو الذي لا يخطئ الإيقاع—يعرف أن صندوق الانتخابات قد لا يعزف اللحن الذي يريد سماعه اليوم.
فيريد مهلة…
مهلة لترميم القلب الدرزي قبل أن يعود إلى الساحة.
خامساً: المكوّن الشيعي… الوحيد الذي يمشي بثبات فوق أرض تهتزّ
في مقابل هذا المشهد المبعثر، تقف الساحة الشيعية كأنّها جزيرة صلبة في بحرٍ مضطرب.
لا ارتباك، لا تردّد، لا خوف من صندوق.
التحالف الثنائي يعرف أنّ الانتخابات، إن وقعت غدًا قبل شروق الشمس، فهو الوحيد الذي يدخلها واثقًا، بلا حسابات خائفة ولا بوصلات مرتبكة.
معركة البلديات الأخيرة لم تكن استحقاقًا محليًا فحسب،
بل كانت اختبار قوة
وخرج منها الثنائي الشيعي كمن يعلن:
“نحن هنا… ثابتون حين يتساقط الآخرون.”
قواعده صلبة،
تنظيمه محكَم،
وخطابه لا يبحث عن جمهور…
بل جمهوره هو الذي يبحث عنه.
في لحظة يتعثر فيها الجميع،
يبدو هذا المكوّن الوحيد الذي يمشي بخطّ مستقيم نحو الصندوق،
كأنّ الطريق مفتوحة أمامه،
وكأنّ الريح التي تعصف بالآخرين تتحوّل عنده إلى نسيمٍ يدفع السفينة إلى الأمام.
شعب في الضوء… وسلطة في العتمة
الشعب لا يطلب معجزة، بل دولة تتذكّره.
أما السلطة، فهي لا تخشى شيئًا كما تخشى أن يسمع الشعب صوته في صندوق صغير.
فالناس حين يجتمعون، يشبهون الحقيقة…
والحقيقة حين تُكشف، تسقط الأقنعة.
لقد صار واضحًا أن الانتخابات ليست حقًا للناس بقدر ما هي هاجسًا للسلطة، وأن النظام السياسي كلّه يتنفس من رئة التأجيل، لا من رئة الشرعية الشعبية
تقول التسريبات إن أكثر من سفارة غربية تلقّت رسائل “غير مباشرة” من أطراف لبنانية تطلب تأجيل الانتخابات بذريعة الظروف. لكن المفارقة أن الجهة الأكثر جهوزية—والأكثر ثقة بقدرتها على الفوز—هي الجهة نفسها التي تصرّ على إجراء الانتخابات “غدًا صباحًا”.
هؤلاء يعرفون ما لا يجرؤ الآخرون على الاعتراف به: أن الخوف الحقيقي ليس من صناديق الاقتراع… بل ممّن سيقف أمامها.
ويقال إن أحد الموفدين سأل زعيمًا كبيرًا:
“هل أنتم جاهزون للانتخابات؟”
فأجابه بابتسامة باهتة:
“نحن جاهزون… لكن خصومنا ليسوا كذلك.”
وحين خرج الموفد من اللقاء، همس أحد الوزراء في إذنه:
“لا تصدّقه… لا أحد في هذا البلد جاهز لمواجهة شعبه.”
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :