في الإجابة عن سؤال “هل تتجدد الحرب على لبنان؟” ثمّة مسؤولية أخلاقية عميقة؛ فالمغامرة بتأكيدها وتحديد موعد محدّد لها يثيران حالة من الخوف العام، كما أن اللامبالاة في توقّعها ورصدها قد تخلق حالة من الارتخاء الضارّة، ما يؤثر، بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، على مستويات الاستعداد.

لا أقدّم في هذا المقال دراسة تتصدّى لمؤشرات الدراسات المستقبلية، ولا أدّعي امتلاك هذه المهارات المهمّة عابرة الاختصاصات، والغائبة عن بلداننا للأسف. ولكن، أحاول إثارة عصف ذهني، وأيضاً تحت مظلّة “ربما”، بشأن سؤال تجدد الحرب الواسعة على لبنان، وذلك في قراءة لعوامل ثلاثة أساسية:

1. عودة المستوطنين وإعادة الإعمار في مستوطنات الشمال؛ فكلّما ارتفعت هذه النسبة، تدلّل على تراجع فرص الحرب الواسعة ( في حال تثبيت العوامل الأخرى).

2. مستوى ما تبقّى من قدرات المقاومة في لبنان، ومستوى ترميم الإمكانات. هل ما زال مخزون القوة لدى المقاومة في لبنان يشكّل حالة ردع؟ أم أنه تم تسييله بشكل كامل خلال الحرب؟ هل تكفي مطالبات نزع سلاح المقاومة من دون حرب؟

3. اتجاهات الحركة في السياسة الداخلية اللبنانية والسياسة الإقليمية والدولية.

عودة المستوطنين وعودة الحرب

دراسة مستويات عودة المستوطنين ووتيرة العمل الإسرائيلي لإعادة إعمار مستوطنات الشمال تعطيان انطباعاً بشأن احتمالات تجدّد الحرب الواسعة على لبنان.

فمستوى أعلى من العودة ووتيرة أعلى من إعادة الإعمار قد تعطي انطباعاً باحتمالات أقلّ على تجديد الحرب في المدى المنظور، ولكن ماذا تقول المؤشرات الحالية بهذا الخصوص؟

لا شكّ أن 13 شهراً من الإسناد اللبناني المستمرّ لغزّة تركت أثراً كبيراً على مستوطنات الشمال. تقول “يديعوت أحرونوت” بعد وقف إطلاق النار مع لبنان؛ أن 9000 بناية دمرت أو تضررت في مستوطنات الشمال، وكذلك 7000 مركبة، وتضرر عدد كبير من المصانع والمشروعات الاقتصادية.

بعد كل ذلك، وجدت “إسرائيل” نفسها في أزمة استراتيجية في الشمال، لها 4 عناوين:

1. الوصول إلى سقف “الأمان المطلق” الذي يبحث عنه المستوطنون ليس سهلاً. صحيح أن عدداً من التقارير الإسرائيلية تتحدث عن فرح مستوطنين في “أفيفيم” بعدم مشاهدتهم مجدداً نقطة مراقبة لحزب الله في مارون الراس، وفرح آخرين في “شتولا” بغياب أبراج لحزب الله في الجهة المقابلة؛ إلاّ أن تقارير أخرى تتحدث عن قلق المستوطنين حتى من عودة أهالي الجنوب إلى أراضيهم، ويقولون إن مشهدهم وهم يرفعون رايات حزب الله يثير الخوف في نفوسهم ( وهذا ما يفسّر أيضاً الإصرار الإسرائيلي على استهداف آليات إعادة الإعمار، على قاعدة القلق حتى من عودة الأهالي، الذين يتمتعون بمعنويات مختلفة تماماً عن المستوطنين، ويجري هذا الاستهداف باستخدام ذريعة مصطنعة عنوانها تخفّي ترميم إمكانات المقاومة خلف غطاء إعادة الإعمار المدني).

2. النسبة الأكبر من المستوطنين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة يفضّلون البقاء في المراكز، للبحث عن فرص عمل أفضل.

ولا سيما أن مستوطني هذه المناطق يشتكون أصلاً من التمييز التنموي بين المناطق، حتى بسرعة الإنترنت المتاحة لهم مقارنة بباقي مناطق فلسطين المحتلة؛ ناهيك بأن معدل الدخل في مستوطنات الشمال أقل بـ 30% من معدل الدخل العام لـ “إسرائيل”.

3. عدد من المشاريع الصناعية، تحديداً تلك التي قامت على أساس شراكات مع القطاع الخاص لا تجد في تسهيلات حكومة الاحتلال المالية ما يكفي للمغامرة مجدداً في فتح مقارّها وخطوط إنتاجها في مستوطنات الشمال.

4. شكاوى المستوطنين في ما يتعلق بالميزانيات والمخصصات لمجالس إدارة المستوطنات تضاعفت بعد الحرب، في ظل رفض سموتريتش تخصيص حصص أكبر، حتى تلك المتعلقة بإعادة الإعمار.

تقول التقارير الإسرائيلية إن 40% من المستوطنين عادوا إلى مستوطنات الشمال، بنسب متفاوتة، فبعض المستوطنات وصلت فيها النسبة إلى 50% ولكنها في المطلّة 8%.

60% لم يعودوا إلى شمال فلسطين المحتلة، والنسبة الأغلب منهم لا تريد العودة؛ لذلك تسعى حكومة الاحتلال للضغط عليهم، تارة بالترغيب بالإعلان عن منح عودة قبل تاريخ محدّد، أو إيقاف منح النزوح عنهم.

أما بشأن نسب إعادة الإعمار، فتقول التقارير أن لا أرقام دقيقة بخصوصها، وأن وتيرة العمل بطيئة.

إذا كنّا نواجه حسابات معقّدة في تحليل واستقراء الخطوات الإسرائيلية المحتملة، فـ”إسرائيل” أيضاً أمام معطيات مركّبة بشأن عودة المستوطنين، فهي من جهة تريد الخلاص من وجع النزوح، وتعرض مجموعة من الحوافز لعودة المستوطنين، وتخشى من إطالة عمر النزوح لكي لا يتحوّل في نهاية المطاف إلى نزوح دائم، وتقلق أنّ يتسبّب طول فترة إعادة الإعمار بـ”فشل تنموي” واستنكاف المشاريع عن تجديد مغامرة العمل في تلك المناطق؛ ولكنها في الوقت نفسه تدرك إشكالية عودة المستوطنين والمشاريع الاقتصادية، ومن ثمّ الحاجة إلى نزوحها وانتقالها من جديد، في حال تجدّدت الحرب!

تجديد الحرب يخلق مشكلة إسرائيلية، وعدم تجديدها يخلق مشكلة. فما الذي يفكّ الارتباك الأكيد بين القرارين؟

هل تعيق إمكانات المقاومة المتبقية خطة حرب أوسع جديدة؟

قبل الحرب الواسعة على لبنان، وبالتحديد في حزيران 2024، نشر مركز دراسات “الأمن القومي الإسرائيلي” ما عدّه تقسيماً لترسانة حزب الله العسكرية، وقال حينذاك إن حزب الله يمتلك ما يقارب 75 ألف صاروخ تستطيع الوصول إلى شمال فلسطين المحتلة، و78 ألفاً تستطيع الوصول إلى حيفا وضواحيها، وأكثر من 4500 صاروخ تستطيع الوصول إلى “تل أبيب” والجنوب، مضافاً إلى كل ذلك آلاف المسيّرات.

في قراءة ترسانة حزب الله، تدرس “إسرائيل” 4 عوامل:

1.  إمكانات الإشباع الناري الذي لا يحتاج إلى صواريخ دقيقة.

2. إمكانات الإصابات النوعية عبر الصواريخ الدقيقة.

3.  إمكانات الحرب غير المتماثلة عبر المسيّرات.

4.  إمكانات الرّدع البري عبر عناصر المقاومة في الميدان.

خلال الحرب على لبنان، استهدفت “إسرائيل” عدداً من منصات الصواريخ، وزعمت أنها استهدفت عدداً من مخازن أسلحة، وبعد وقف إطلاق النّار إلى يومنا هذا تستمر “إسرائيل” في استهداف ما تدّعي أنه بنى تحتية تابعة لحزب الله.

هل استطاعت “إسرائيل” الوصول إلى نقطة أمان في العوامل الأربعة المذكورة؟

يشكّك تقرير مفصّل نشره مركز “ألما” الإسرائيلي للبحوث في إمكانية الوصول إلى مستويات أمان في النقاط المذكورة، وأخرى غيرها.

ويتوقف التقرير، الذي حاول تحليل مستوى الإمكانات لدى حزب الله، وحجم الضرر الذي لحق بها خلال الحرب، عند مجموعة من النقاط، ويقول:

1. يورد التقرير أن حزب الله خسر 15% من طاقته البشرية خلال الحرب، سواء عبر استشهاد العناصر أو جرحها. ويقول التقرير إن تحييد 15 ألف عنصر من المقاومين، يعني أيضاً استمرار عمل 85 ألف عنصر.

2.يرى التقرير أن الأضرار التي لحقت بوحدة الرضوان عطّلت إمكاناتها عن المهمة الرئيسية المتمثلة في الدخول إلى الجليل، أقلّه على المدى المنظور.

3. يقدّر التقرير أن الأضرار التي لحقت بوحدات “ناصر” و”عزيز” (جنوب الليطاني) أكبر من الأضرار التي لحقت بوحدة “بدر” شمال النهر. وهذا ما يضع أعباء على الأخيرة في المساهمة في ترميم إمكانات الوحدتين الأخريين.

4.يحلّل التقرير حالة الأنفاق؛ ويقسّمها إلى أنواع مختلفة (الأنفاق التكتيكية والاستراتيجية داخل لبنان، وأنفاق الوصول والهجوم المساندة لخطط الدخول إلى الجليل). ويقول إن قوات الاحتلال تمكّنت من تحييد النوع الثاني المرتبط بالدخول إلى الجليل، ولكنها لم تتمكن من تحييد الأنفاق ذات الصلة بعمليات الدفاع وصدّ العدوان.

5. بالنسبة إلى ذخيرة الصواريخ التي امتلكها حزب الله قبل بدء الحرب، يختلف مركز “ألما” في تقديراته عن باقي المراكز الإسرائيلية، بما في ذلك مركز “الأمن القومي الإسرائيلي” للدراسات، إذ يرى أن الإمكانات كانت 75 ألف صاروخ ومقذوف وليس 150 ألف صاروخ أو 200 ألف صاروخ.

تستند معظم مراكز الدراسات الإسرائيلية في تحليلها لما تبقّى من مخزون صواريخ لدى حزب الله إلى تصريح غالانت، الذي قال إن 80% من هذه الإمكانات قد دُمرّت، ما يعني أن ما تبقى، في نظر الاحتلال، هو 20-25 ألف صاروخ حسب اعتقاد مركز “ألما”، أو 35 -40 ألف صاروخ حسب باقي مراكز الدراسات.

ولذلك، تقول التقديرات الإسرائيلية إن قدرة الحزب على الإشباع الناري تراجعت، ولكنها لم تتلاشَ، كما أنّ عناصر المسيّرات والصواريخ الدقيقة ما زالت تمثل جزءاً من المعادلة. يراهن عدد من مراكز الدراسات الإسرائيلية على تراجع عدد منصّات الصواريخ التي تمّ استهدافها خلال الحرب.

6. لا يشغل بال “إسرائيل” ما تبقى من مخزون الصواريخ فقط، ولكن أيضاً إمكانات التصنيع وإمكانات نقل شحنات جديدة. لذلك، يحلّل هذا التقرير إمكانات “إسرائيل” في تدمير منشآت التصنيع وإمكاناتها في الحجب الكامل لشحنات جديدة، لذلك ترسم مجموعة من الممرّات المحتملة كبديل عن سوريا.

بعد التحليل لهذه المؤشرات، يخلص تقرير “ألما”، الصادر في أيار 2025، إلى مجموعة من النتائج، منها:

1. مع كل الخسائر التي تعرّض لها حزب الله، إلا أنّ إنهاءه فكرة بعيدة جداً.

2. تراهن “إسرائيل” على غياب مجموعة من القيادات ذات الخبرة الواسعة، بعد استشهادها، وأنّ تعويضها ليس بالأمر السهل.

3. تراهن “إسرائيل” على تراجع الثقة بالمقاومة بعد ما تعرّضت له من خرق استخباري، ولكنها من جانب آخر تدرك عمق التزام البيئة الأيديولوجي بمشروع المقاومة، ويقول مركز “ألما” إن البندقية في شعار حزب الله ليست ديكوراً، فالشرف والفخر هما كل شيء، وحزب الله وجد ليبقى!

يقول التقرير إن حزب الله بحاجة إلى الوقت والصبر، فهل تمتلك “إسرائيل” هذا الصبر؟ هل ترى “إسرائيل” أنها أمام فرصة تاريخية لإنهاء حزب الله؟ هذا هو السؤال الذي يؤسس لاستقراء إمكانات حرب أوسع جديدة.

ميدانياً، “إسرائيل” اليوم أمام خيارين، إما خوض معركة السباق والوقت ضد حزب الله (المقاومة تركض في ترميم الإمكانات، و”إسرائيل” تركض في محاولة قطع الطريق) وإما فتح حرب أوسع جديدة، لا تكون العواقب فيها مطمئنة تماماً بالنسبة إلى”إسرائيل”، وتحديداً بعد استخدامها أوراق الخرق الأمني، التي حضّرت لها على مدار سنوات. إلى الآن، ومجدداً تحت مظلة “ربما”، تبدو “إسرائيل” أكثر ميلاً إلى الخيار الأول، أقلّه في المدى القريب المنظور.

ومهما كان السيناريو، الأول أو الثاني، فنحن في كل الأحوال في خضمّ حرب مستمرة!

البيئة الاستراتيجية للإقليم

يرتبط القرار الإسرائيلي بتوسيع الحرب على لبنان مجدداً، بمحددات إقليمية ولبنانية داخلية أيضاً:

1.من لحظة تخريب الاقتصاد اللبناني أميركياً وإسرائيلياً بالدرجة الأولى، مروراً بجريمة الطيونة في قتل متظاهرين مدنيين، إلى اليوم في دقّ الأسافين السياسية داخل لبنان، تطمح “إسرائيل” إلى حرب أهلية في لبنان. وكان للشهيد السيد حسن نصر الله دور كبير في تجنيب لبنان هذه الحرب، بسياسة احتوائه الصبورة للفرق السياسية في لبنان، خدمة للتركيز على مشروع المقاومة.

“إسرائيل” تحرّض في لبنان على أن الفرصة تاريخية لنزع سلاح المقاومة، ولكنّ المعطيات الداخلية للبنانية ما زالت تعمل عكس اتجاه الرغبات الإسرائيلية، سواء لجهة تسعير حرب أهلية أو نزع السلاح.

2. تلاشت آمال الحسم السريع لدى “إسرائيل” في 3 ساحات أساسية، غزة واليمن وإيران. ففي قطاع غزة، من الواضح بعد اتفاق إطلاق النار الأخير، أن حرب “إسرائيل” مستمرة بالاستناد إلى خنق القطاع بقطع المساعدات، وخوض معركة جديدة لنزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وفي اليمن تتركزّ أهداف الغارات مؤخراً باتجاه القيادات اليمنية، وفي إيران خسر الرهان على اللحظة الخاطفة في الحرب، وتلاشت آمال الحسم العسكري بإسقاط النظام ضد قوة إقليمية كبرى بحجم إيران.

3. هنالك دفع أميركي للتركيز على اغتنام “فرصة تاريخية” في تصليب عود “ناتو عربي” مجدداً، بشروط أكثر قسوة من المحاولة السابقة في إدارة ترامب الأولى.

استنتاجات

1. الحرب مستمرة، ولكن ليس بالضرورة بأوسع دائرة ممكنة من النار، في المدى القريب. “إسرائيل” والولايات المتحدة تدخلان في حالة من الاستنزاف الطويل، الذي تعدانه أكثر أريحية مما كان عليه الوضع قبل عام من الآن. وتعتبران أن الاستنزاف محتمل ما دام هناك اطمئنان إلى عدم مبادرة الخصم إلى توسيع الحرب.

وهذا الاستنزاف يعني استمرار غارات على اليمن هدفها الأساسي القيادات وخلق حالة من الارتباك داخل حكومة صنعاء وحركة أنصار الله، والضغط الأقصى على إيران عبر بوابة التفاوض النووي و”السناب باك” مجدداً ، واستمرار القصف في لبنان لمنع حزب الله من الترميم الكامل للإمكانات، واستمرار العمل في قطاع غزة باتجاه التهجير الناعم ونزع سلاح المقاومة.

2. لاستقراء الخطط الإسرائيلية واحتمالات تجديد الحرب على لبنان، لا بدّ من المراقبة المستمرة لأعمال “إسرائيل” في إعادة الإعمار وعودة المستوطنين إلى مستوطنات الشمال، ولا يكفي الاعتماد على وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي مارست تضليلاً محكماً خلال السنوات الماضية.

3. في سكة موازية، من المهمّ متابعة التصورات الذهنية لدى كيان الاحتلال بشأن إمكانات حزب الله؛ فهذه التصورات هي أيضاً جزء من قرار الحرب.

سؤال “تجديد الحرب الأوسع على لبنان” يحمل مسؤولية أخلاقية كبيرة، ولذلك لا يمكن اعتباره سؤال (نعم/لا) (Y/N Question)، ولذلك أكثر ما يمكن قوله إن هناك ميلاً عاماً أميركياً بالدرجة الأولى، وتالياً إسرائيلياً، إلى الاستنزاف الطويل، الذي يرونه أكثر أريحية مما كان عليه، ولكن يجب أن يبقى الاستعداد حاضراً دائماً، كأن الحرب سوف تحدث غداً، فكثيراً ما احتطنا من الجهات الأربع، وداهمنا الخطر من الجهة الخامسة!

“إسرائيل” تحاول تحقيق أهدافها عبر الاستنزاف هذه المرة، وتستطلع وتبني القرارات أثناءه. إن هذه الحرب المستمرة تتسم بدينامية غير مسبوقة، فحتّى قرارات الحرب تُتخذ الآن، أثناء الحرب!

محمد فرج-الميادين