تباطؤ الإنترنت… لبنان على حافة العتمة الرقمية
لم يبدأ بطءُ الإنترنت في لبنان مع حادثة انقطاع الكابلات البحريّة الأخيرة في البحر الأحمر مطلع أيلول الجاري، ولن ينتهي عندها. ما يعيشه اللبنانيون اليوم ليس عطلاً عابرًا، بل حصيلة سنوات من سياساتٍ مؤجَّلة، واستثماراتٍ منقوصة، وحوكمةٍ قطّعت أوصال الشبكة بين احتكارٍ مقنَّع وقراراتٍ ترقيعية. صحيحٌ أنّ أعطال البحر الأحمر سلّطت الضوء على هشاشة الاتصالات الإقليميّة، لكنّ الرسالة الأوضح محليًا كانت أنّ بنيتنا الأرضيّة، ونماذج التسعير، وتنوّع المسارات الدوليّة، ونقاط تبادل البيانات، لم تُبنَ أصلًا على فلسفة “المرونة” بل على إدارة يوميّات الأزمة.
داخل الحدود: هشاشة مضاعفة
لبنانُ في جوهر المشكلة يعتمدُ دوليًّا على مسارٍ واحدٍ شبه حصريّ، ومن الداخل على شبكةٍ لم تكتمل بنيتها ولا اكتملت حوكمتها: أليافٌ ضوئيّة متعثّرة، نقاطُ تبادلٍ نادرة، مراكزُ بيانات محدودة، وحركة محلّية تُجبَر على الخروج إلى الخارج قبل أن تعود إلى المستخدمين. تقرير “Internet Society” يشير إلى أنّ “مرونة الإنترنت” داخليًا لا تتجاوز 28 في المئة، مع وجود نقطتي تبادل إنترنت (IXPs) وثلاثة مراكز بيانات فقط. ومع كلّ ضغطٍ أو عطلٍ في الحلقة الأضعف، ترتفع الكلفة وينخفض الأداء.
مدير برنامج الإعلام وحوكمة الإنترنت في منظمة “سمكس” عبد قطايا، يلخّص هذا المأزق قائلًا لـ”المدن”: “نعتمد على “IMEWE” وعلى “كديموس”، وكلاهما يصلان عبر أوروبا. هذا الاعتماد محفوف بالمخاطر، إذ لم ننجح في تنويع مصادرنا. صحيح أنّ لدينا كابلًا نحو سوريا ورابطًا برّيًا، لكنّ فعاليته محدودة جدًا. مشكلتنا الأساسية أنّ البنية التحتية الداخلية نفسها غير مكتملة، شبكة الألياف الضوئية نُفِّذ منها فقط نحو 10 في المئة رغم صرف أكثر من 300 مليون دولار عليها. الأموال ضاعت هدرًا بلا محاسبة، وها نحن أمام شبكة قديمة لا تستوعب أي سعات دولية إضافية حتى لو جرى مدّ كابلات جديدة”.
الاقتصاد الرقمي تحت الضغط
لا يقتصر أثر تباطؤ الإنترنت على تجربة المستخدم الفردية. فالاقتصاد اللبناني، رغم أزماته، صار يعتمد أكثر على الخدمات الرقميّة، تحويلات المغتربين الإلكترونيّة، والمدفوعات عبر البطاقات والتطبيقات، ومنصّات التجارة، والعمل عن بُعد الذي بات مصدر دخل لآلاف اللبنانيين. أيّ خلل في سرعة أو استقرار الشبكة يترجم فورًا بخسائر إنتاجيّة، وتأخير معاملات، وتراجع ثقة.
تقارير مراقبة دولية مثل “NetBlocks” و”Cloudطflare” أظهرت كيف أنّ الأعطال الأخيرة رفعت زمن الاستجابة على المسارات العابرة للشرق الأوسط بنسبة وصلت إلى 30%. المستخدم اللبناني دفع الكلفة مضاعفة بسبب ضيق البدائل المحلية.
قطايا يحذّر من أنّ السيناريو الأسوأ ليس بعيدًا: إذا تعطّل”IMEWE”، فإنّ الإنترنت سيتباطأ إلى مستويات كارثية، ربما تصل إلى 10 كيلوبايت في الثانية. لن يقتصر الأمر على تعطيل المعاملات المالية، بل سيشلّ تقريبًا كلّ القطاعات. الضغط على كابل واحد يعني فقدان القدرة على العودة إلى نطاق ترددي مقبول”.
ستارلينك”: شبكة أمان أم وهم؟
في 11 أيلول عام 2025، منح مجلس الوزراء اللبناني ترخيصًا رسميًا لخدمات الإنترنت الفضائي “ستارلينك”. القرار بدا كأنّه صمّام أمان في مواجهة سيناريوهات الانقطاع الشامل. لكن هل يشكّل حلًا جذريًا؟
يرى خبراء اتصالات أن ستارلينك وأشباهه مثل OneWeb أو “الريسَت” و”عربسات” ليست بديلًا عن الكابلات البحرية، هي حلّ احتياطي، نسخة “Backup” لا أكثر. ويمكن أن تنفع المؤسسات الحيوية عند الأزمات أو في المناطق النائية، لكن لا يمكن بناء اقتصاد رقمي مستدام عليها. الأساس هو بناء شبكة أرضية قوية، من الألياف الضوئية إلى النقاط المحلية لتبادل البيانات. ما عدا ذلك يبقى ترقيعًا”. ويلتقي خبراء على أن تسويق الإنترنت الفضائي كخيار استثماري أول يضلّل الناس. وعلى سبيل المثال مدرسة لديها “ستارلينك” لن تستفيد إذا كان التلاميذ في منازلهم بلا إنترنت منزلي. كذلك الجامعات ومراكز الأبحاث. نحن بحاجة إلى مقاربة تبدأ من الداخل، تحديث الشبكة الثابتة، تحسين الإنترنت المحمول، وضع نماذج تسعير عادلة، وإعادة فتح القطاع أمام استثمارات شفّافة.
والحال، فإنّ المعضلة أعمق من الكابلات. قطاع الاتصالات في لبنان تحوّل منذ عقدين إلى أداة جباية مالية بدل أن يكون رافعة تنمية. بين عامي 2010 و2020، دخل إلى الخزينة نحو 17 مليار دولار من عائدات الاتصالات. لكن أيّ جزء أُعيد استثماره في تطوير الشبكة؟ الجواب، كما يقول قطايا، هو: “النهب طال القسم الأكبر، بلا خطط استراتيجية، ولا حوكمة رشيدة”.
هذه السياسة جعلت لبنان بلدًا فيه أكثر من ستة ملايين خطّ خلوي، لكنّه لا يستفيد فعليًا من هذا الحجم عبر تعزيز الاستخدامات الرقمية أو توسيع السعات. النتيجة، خدمات “مقطّرة” بأسعار مرتفعة نسبيًا، من دون تحفيز للنمو الاقتصادي الرقمي.
البدائل المتاحة: من قبرص إلى مصر
الحلول موجودة، لكن الإرادة غائبة. يمكن للبنان أن يستفيد من موقعه الجغرافي عبر مدّ كابلات جديدة إلى قبرص، أو إلى محطّات المتوسّط في مرسيليا وكاتانيا. يمكنه أيضًا أن يبرم اتفاقيات مع مصر، التي أصبحت عقدة رئيسية للكابلات البحرية، أو مع تركيا والسعودية اللتين نوّعتا مصادرهما.
ويوضح أكثر من خبير اتصالات أنه كان يمكن منذ سنوات أن نمدّ كابلًا إلى قبرص بكلفة معقولة، من خلال شركات خاصة تستثمر وتؤجّر السعات لاحقًا. البحر مفتوح، والخيارات متاحة، لكن غياب القرار السياسي عطّل كلّ شيء. بدل أن نكون جزءًا من شبكات إقليمية حديثة، بقينا أسرى كابل واحد.
حلول تقنية داخلية… IXPs و”الكاش”
إلى جانب الكابلات الدولية، هناك حلول داخلية يمكن أن تخفّف الضغط. من أبرزها إنشاء نقاط تبادل بيانات (IXPs) إضافية، ما يسمح بتبادل الحركة داخليًا بين مزوّدي الخدمة والمؤسسات من دون المرور عبر الخارج. كذلك يمكن نشر خوادم “Caching” لمحتويات الفيديو والبثّ، مثل نتفليكس ويوتيوب، بحيث يُجلَب المحتوى مرّة واحدة من الخارج ويُقدَّم محليًا.
بعض مزوّدي الإنترنت في لبنان أنشأوا خوادم “كاش” خاصة بهم، لكن من دون إطار تنظيمي شامل. فيما هو “ممنوع” أساسًا على “أوجيرو” أنّ تُنشئ ذلك. قطايا يرى أنّه “إذا كان لدينا ثلاثة كابلات فعّالة ومسارات قويّة، فقد تُصبح قصّة الـIXP مسألةً لاحقة، لكن واقعنا اليوم أنّ تعزيز الكابلات والمسارات أساسيّ، إلى جانب تحسين البنية الداخليّة، وليس بديلًا عنها. أما الاقتصار على “الكاش” أو الاعتماد على مسار واحد مع احتكارٍ أو تضييق، فهو طريق مسدود”.
القاعدة بسيطة: الإنترنت بنية تحتيّة سياديّة على غرار المرافئ والمطارات. من دون تعدّد مساراتٍ بحريّة وبرّيّة فعّالة، ومن دون شبكةٍ أرضيّة حديثة تتبادل البيانات محلّيًا وتُخزّن المحتوى قرب المستخدم، ستبقى البلاد رهينة “عنق زجاجة” واحد؛ يكفي أن يختنق حتى تختنق معه المعاملات، والتعليم، والصحّة، ومداخيل آلاف العاملين لحساب السوق العالميّة.
ولهذا، فالمطلوب ليس “حلولًا سحريّة” ولا قفزًا إلى بدائلٍ فضائيّة تُباع كإنقاذٍ شامل؛ المطلوب سياسةٌ عمومية تضع المرونة أوّلًا: تنويعُ الكابلات، استكمالُ الألياف، تحريرُ التبادل المحلّي، أطرٌ ناظمةٌ للكاشينغ ومراكز البيانات، وتسعيرٌ عادلٌ يشجّع الاستثمار بدل الجباية.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
.اضغط هنا
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي