بقلم: د. ميراي زيادة
لم يعد شرقي البحر المتوسط مجرد بحر هادئ يحتضن دولًا متجاورة، بل تحوّل إلى ساحة صراع طاقوي عالمي، تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى مع حسابات الدول الإقليمية. فالغاز المكتشف حديثًا في هذه المنطقة أعاد رسم الخريطة الاقتصادية، وجعل من المتوسط محورًا استراتيجيًا في ظل تزايد الطلب العالمي، خصوصًا الأوروبي، على هذه المادة الحيوية. ومن هنا، يصبح السؤال: أين يقف لبنان وسط هذه التحولات؟
في هذا السياق، برز مشروع East Med الذي وقّعته كل من اليونان وإسرائيل وقبرص عام 2020، لنقل الغاز عبر المتوسط إلى أوروبا، وتحديدًا اليونان وإيطاليا. ويهدف هذا المشروع أساسًا إلى تقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي. غير أنّ اكتماله سيضع لبنان أمام معادلة دقيقة، إذ قد يعرقل حرية تصريف غازه إذا لم ينضم إليه، ما يجعله أمام خيار صعب بين المشاركة أو العزلة.
وبالمقابل، لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي، فهي تدرك أنّ أي خط بديل يضعف حضورها في السوق الأوروبية. ولهذا عززت موسكو مشاريعها، مثل Nord Stream عبر البلطيق وTurk Stream بالتعاون مع تركيا. غير أنّ اهتمامها بشرق المتوسط، ولبنان تحديدًا، لا يقتصر على الاقتصاد فحسب، بل يمتد إلى ترسيخ النفوذ الجيوسياسي في وجه المشاريع الغربية. وهكذا، يصبح لبنان جزءًا من حسابات التوازن الروسي – الأوروبي.
أما الولايات المتحدة، فقد حاولت بدورها الدفع بمشروع نابوكو الذي كان من المفترض أن يربط آسيا الوسطى بتركيا فأوروبا. ورغم فشل هذا الخط، فإن واشنطن لا تزال تنظر إلى شرق المتوسط كركيزة أساسية في بناء “حلف طاقوي” جديد، يوازي حلف بغداد القديم ولكن بثوب اقتصادي. ومن هنا، يظهر لبنان مجددًا كورقة ضمن لعبة النفوذ الأميركي، وإن لم يحدّد بعد اتجاهه بوضوح.
وفي خضم هذا التنافس، تبرز تركيا لاعبًا لا يمكن تجاهله. فموقعها الجغرافي جعل منها معبرًا رئيسيًا لخطوط الغاز مثل BTC و”نابوكو”، إلى جانب شراكتها مع موسكو في Turk Stream. وبذلك، تسعى أنقرة للتحول إلى مركز إقليمي – دولي للطاقة، مدعومة بوجودها العسكري في ليبيا وقبرص. وهنا، يجد لبنان نفسه أمام جار طموح يسعى لفرض حضوره في كل ما يتعلق بشرقي المتوسط.
وإلى جانب القوى الكبرى، تحاول بعض الدول العربية إحياء مشاريعها. فالحديث عاد عن خط الغاز القطري الذي يربط الدوحة بأوروبا مرورًا بالسعودية والأردن وسوريا، كما تسعى السعودية لإعادة النظر في “التابلاين” الذي كان يصل إلى صيدا. كذلك يدرس العراق إمكانية إحياء خط كركوك – بانياس – طرابلس لتوسيع منافذ تصديره. وبذلك، يصبح لبنان جزءًا محتملًا من شبكة عربية – متوسطية، شرط أن تتوافر الظروف السياسية والأمنية الملائمة.
وانطلاقًا من هذا المشهد، يظهر أنّ لبنان يقف عند مفترق طرق. فإما أن ينضم إلى مشروع East Med مع ما يتطلبه من تنازلات سياسية، أو أن يقترب من روسيا وتركيا بما يحمله من تحديات في العلاقة مع الغرب، أو أن ينخرط في شبكة عربية ما زالت رهينة التوازنات الإقليمية. غير أنّ الخيار الأكثر واقعية قد يكون سياسة الموازنة وتنويع الشراكات، بحيث يستفيد لبنان من موقعه الجغرافي ليكون جسرًا للطاقة بدل أن يصبح ساحة تنافس الآخرين.
في المحصلة، يمكن القول إن الاكتشافات البترولية وضعت لبنان أمام فرصة تاريخية، لكنها محفوفة بالمخاطر. فالنجاح يتطلب أولًا تثبيت حجم ثروته بدقة، وثانيًا التفاوض بذكاء مع القوى الإقليمية والدولية، وثالثًا اعتماد سياسة براغماتية تمنحه حرية الحركة. فهل يتمكن لبنان من تحويل موقعه الجغرافي إلى رافعة اقتصادية واستراتيجية، أم يظل أسير صراعات المشاريع العابرة لحدوده؟
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :