ما سر الكهف الذي غيّر زعيم الصين ودفعه لتحدي أميركا بكل قوة؟
كان المشهد غير عادي في قاعة الشعب الكبرى في بكين، أثناء انعقاد المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017. انفجر الحضور بالبكاء، وتعالت أصوات المندوبين القادمين من جميع أنحاء الصين في أغنية لتأييد شي جين بينغ، الأمين العام للحزب ورئيس البلاد.
تحمست إحدى الحاضرات لتلقي قصيدة مديح مرتجلة تثني على سياسات جين بينغ تجاه الأقليات العرقية، ومسحت مندوبة أخرى دموعها وقد غلبها التأثر بعد أن أنهى شي خطابه. بل إن المسؤولين المعروفين برزانتهم لم يملكوا أنفسهم من التفاعل مع جين بينغ وهتافات الصين، ليصرّح ليو شي يو، رئيس هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية قائلًا: "في غضون خمس سنوات، وبفضل اللجنة المركزية للحزب، وفي القلب منها الرفيق جين بينغ، أُنقذ الحزب، وأُنقذ الجيش، وأُنقذت البلاد"
كانت الأجواء تبجيلية، بل تقديسية، في المؤتمر الذي ينعقد كل خمس سنوات بشكل لم تعتده الصين منذ رحيل مؤسس نظامها الحديث. لكن خلال فترة رئاسية واحدة لـشي، الذي كان يبلغ من العمر حينها 64 عامًا، تغير كل شيء. فقد عزز الرجل سلطته أسرع وبشكل أعمق مما فعل أي زعيم صيني من قبل، بعد أن حقق نجاحات في مكافحة الفساد، وصعد باقتصاد الصين إلى مستويات غير مسبوقة، ورسخ سلطة الصين عالميًّا، لكن ذلك التبجيل ليس كله عفويا، فقد حاصر شي منافسيه الأقوياء، وشدد القيود على الإعلام والمجتمع المدني، وأعاد هيكلة قيادة الجيش وأذرعه بما يضمن أن تكون صورة البلاد على قلب رجل واحد وراءه شخصيا.
وبحلول مؤتمر الحزب ذلك، كان شي يوصف بأنه الزعيم الأهم في الصين منذ عهد ماو، فقد رسخ اسمه وأيديولوجيته في دستور الحزب. لكن إرث شي، الذي تعزز أضعافًا خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة، استفاد كثيرًا من كونه أحد الناجين من جلادي الثورة الثقافية التي قضت على ملايين الصينيين، والكثير من قادة الحزب وأبطاله الثوريين، بمن فيهم والده شخصيًّا.
كان شي نموذجًا مثاليًّا لشيوعي مخلص، وثوري متحمس لأفكار الحزب لم تفتّ في عضده رعونة تطبيقها التي آذته وأهله، وجعلت من حكايته قصة تُروى لبطل ارتقى من منفاه في كهف ريفيّ في أقاصي الصين، إلى قصر الحكم فيها.
لكي نفهم الصين الآن، علينا أن نفهم زعيمها شي وفلسفته وأفكاره التي توجه الصين اليوم وربما لعقود قادمة، ولكي نفعل ذلك علينا أن نتتبع حياته، التي تعني أن نتتبع رحلة الصين المضطربة منذ عصر ماو إلى مكانتها الجديدة حين أصبحت قوة عظمى. إن قصة شي لا تنفصل عن التاريخ الحديث للصين، بل ولا عن تاريخها القديم أيضًا.
ففي محاولته بناء قوة الصين، يمزج شي بين العقيدة الشيوعية، بتنويعاتها المختلفة، وبين التقاليد الكونفشيوسية ورؤية الصينيين لأنفسهم. وبينما يقود شي الصين إلى ما يدعوه "العصر الجديد"، تحكي قصته الكثير عن مصدر قوة الصين، وإلى أين يمكن أن تتجه.
مراهق في الكهف
منذ حرب الأفيون البريطانية عام 1840 على الصين، مرورًا بالاجتياح الياباني الذي تعرضت له، والتفكك الداخلي الذي أنهكها داخليا، عاشت الصين انكسارات قاسية ومتتالية على مدى أكثر من مئة عام. وعندما أعلنت الصين الشعبية قيامها عام 1949، كانت تُؤسَّس دولة تريد أن تمنع عودة أيام الضعف مرة أخرى. ولد شي جين بينغ مع نهاية "قرن الإذلال"، لكنه لم يكن بعيدًا عنه.
فقد عاشه على طريقته: والده القائد الثوري يُسجن ويُهان، ويُنفى هو إلى الريف، يُطلب منه أن يُدين أباه، تُغلق مدرسته، ويعيش في كهف كفلاح منسي. عاش شي صيغته الخاصة من "الهزيمة الوطنية"، وكانت هزيمة داخل الحزب، داخل الذات، داخل العائلة.
بعد يوم طويل من رعاية المواشي والحراثة وحمل السماد ونقل الفحم، سار الفتى شي باتجاه الكهف لينال قسطًا من الراحة. كان شي يحمل على ظهره حقيبة من قماش خشن، مطرزة يدويًّا وعليها رمز صيني يعني "قلب الأم". صنعتها له والدته حين نُقل منفيًّا في سن الخامسة عشرة إلى قرية صينية نائية، تنفيذًا لأمر "إعادة التأهيل" الذي أصدره ماو تسي تونغ ضده، في خضم الثورة الثقافية التي بدأت منتصف ستينيات القرن الماضي. لم يعلم ماو، أن قلب أُمّ شي جين بينغ سيكون نورًا للكهف، وأن الكهف في كثير من الأحيان، كما في حالة ابنها، سيتحول إلى فرصة لا منفى.
نُفي شي مرتين، الأولى قسرًا فاستغلها لبناء ذاته، والثانية نفى نفسه بإرادته، وعاد إلى الريف شابًّا يحمل "قلب الأم" مرة أخرى، ومن هناك صعد ليصبح رئيسا.
عودة إلى الوراء، إلى عام 1953، حيث ولد شي لأسرة تنتمي إلى "النخبة الحمراء". والده، شي تشونغ شيون، نائب رئيس الدولة آنذاك، كان أحد رفاق ماو تسي تونغ، وأحد الوجوه البارزة في النظام الثوري الصيني. ولكن مع الوقت، ولأسباب مثل إعجابه برواية حظرها ماو، يتحول نائب رئيس الدولة إلى مُعتقل سياسي لدى رفيقه القديم، وتُجبر أمه على العمل الشاق في المزارع، وشي لا يزال طفلًا.
الآن
سوريا
فلسطين
السودان
أوكرانيا
سياسة
|
أبعاد
|
الصين
ما سر الكهف الذي غيّر زعيم الصين ودفعه لتحدي أميركا بكل قوة؟
الرئيس الصيني شي جين بينغ (رويترز)
رزان شوامرة
Published On 8/9/2025
8/9/2025
|
آخر تحديث: 14:04 (توقيت مكة)
آخر تحديث: 14:04 (توقيت مكة)
انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي
كان المشهد غير عادي في قاعة الشعب الكبرى في بكين، أثناء انعقاد المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017. انفجر الحضور بالبكاء، وتعالت أصوات المندوبين القادمين من جميع أنحاء الصين في أغنية لتأييد شي جين بينغ، الأمين العام للحزب ورئيس البلاد.
تحمست إحدى الحاضرات لتلقي قصيدة مديح مرتجلة تثني على سياسات جين بينغ تجاه الأقليات العرقية، ومسحت مندوبة أخرى دموعها وقد غلبها التأثر بعد أن أنهى شي خطابه. بل إن المسؤولين المعروفين برزانتهم لم يملكوا أنفسهم من التفاعل مع جين بينغ وهتافات الصين، ليصرّح ليو شي يو، رئيس هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية قائلًا: "في غضون خمس سنوات، وبفضل اللجنة المركزية للحزب، وفي القلب منها الرفيق جين بينغ، أُنقذ الحزب، وأُنقذ الجيش، وأُنقذت البلاد".
اقرأ أيضا
list of 2 items
list 1 of 2الصين تتكلم.. كيف ستواجه الحروب المقبلة؟
list 2 of 2لست وحدك في الكون.. رسالة العرض العسكري الصيني لترامب
end of list
كانت الأجواء تبجيلية، بل تقديسية، في المؤتمر الذي ينعقد كل خمس سنوات بشكل لم تعتده الصين منذ رحيل مؤسس نظامها الحديث. لكن خلال فترة رئاسية واحدة لـشي، الذي كان يبلغ من العمر حينها 64 عامًا، تغير كل شيء. فقد عزز الرجل سلطته أسرع وبشكل أعمق مما فعل أي زعيم صيني من قبل، بعد أن حقق نجاحات في مكافحة الفساد، وصعد باقتصاد الصين إلى مستويات غير مسبوقة، ورسخ سلطة الصين عالميًّا، لكن ذلك التبجيل ليس كله عفويا، فقد حاصر شي منافسيه الأقوياء، وشدد القيود على الإعلام والمجتمع المدني، وأعاد هيكلة قيادة الجيش وأذرعه بما يضمن أن تكون صورة البلاد على قلب رجل واحد وراءه شخصيا.
epa06272580 Chinese President Xi Jinping (C, bottom) delivers a speech during the opening ceremony of the 19th National Congress of the Communist Party of China (CPC) at the Great Hall of the People (GHOP) in Beijing, China, 18 October 2017. China holds the 19th Congress of the Communist Party of China, the country's most important political event where the party's leadership is chosen and plans are made for the next five years. Xi Jinping is expected to remain as the General Secretary of the Communist Party of China for another five-year term. EPA-EFE/WU HONG
الرئيس شي جين بينغ متحدثًا أمام المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2017 (الأوروبية)
وبحلول مؤتمر الحزب ذلك، كان شي يوصف بأنه الزعيم الأهم في الصين منذ عهد ماو، فقد رسخ اسمه وأيديولوجيته في دستور الحزب. لكن إرث شي، الذي تعزز أضعافًا خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة، استفاد كثيرًا من كونه أحد الناجين من جلادي الثورة الثقافية التي قضت على ملايين الصينيين، والكثير من قادة الحزب وأبطاله الثوريين، بمن فيهم والده شخصيًّا.
كان شي نموذجًا مثاليًّا لشيوعي مخلص، وثوري متحمس لأفكار الحزب لم تفتّ في عضده رعونة تطبيقها التي آذته وأهله، وجعلت من حكايته قصة تُروى لبطل ارتقى من منفاه في كهف ريفيّ في أقاصي الصين، إلى قصر الحكم فيها.
لكي نفهم الصين الآن، علينا أن نفهم زعيمها شي وفلسفته وأفكاره التي توجه الصين اليوم وربما لعقود قادمة، ولكي نفعل ذلك علينا أن نتتبع حياته، التي تعني أن نتتبع رحلة الصين المضطربة منذ عصر ماو إلى مكانتها الجديدة حين أصبحت قوة عظمى. إن قصة شي لا تنفصل عن التاريخ الحديث للصين، بل ولا عن تاريخها القديم أيضًا.
ففي محاولته بناء قوة الصين، يمزج شي بين العقيدة الشيوعية، بتنويعاتها المختلفة، وبين التقاليد الكونفشيوسية ورؤية الصينيين لأنفسهم. وبينما يقود شي الصين إلى ما يدعوه "العصر الجديد"، تحكي قصته الكثير عن مصدر قوة الصين، وإلى أين يمكن أن تتجه.
مراهق في الكهف
منذ حرب الأفيون البريطانية عام 1840 على الصين، مرورًا بالاجتياح الياباني الذي تعرضت له، والتفكك الداخلي الذي أنهكها داخليا، عاشت الصين انكسارات قاسية ومتتالية على مدى أكثر من مئة عام. وعندما أعلنت الصين الشعبية قيامها عام 1949، كانت تُؤسَّس دولة تريد أن تمنع عودة أيام الضعف مرة أخرى. ولد شي جين بينغ مع نهاية "قرن الإذلال"، لكنه لم يكن بعيدًا عنه.
فقد عاشه على طريقته: والده القائد الثوري يُسجن ويُهان، ويُنفى هو إلى الريف، يُطلب منه أن يُدين أباه، تُغلق مدرسته، ويعيش في كهف كفلاح منسي. عاش شي صيغته الخاصة من "الهزيمة الوطنية"، وكانت هزيمة داخل الحزب، داخل الذات، داخل العائلة.
بعد يوم طويل من رعاية المواشي والحراثة وحمل السماد ونقل الفحم، سار الفتى شي باتجاه الكهف لينال قسطًا من الراحة. كان شي يحمل على ظهره حقيبة من قماش خشن، مطرزة يدويًّا وعليها رمز صيني يعني "قلب الأم". صنعتها له والدته حين نُقل منفيًّا في سن الخامسة عشرة إلى قرية صينية نائية، تنفيذًا لأمر "إعادة التأهيل" الذي أصدره ماو تسي تونغ ضده، في خضم الثورة الثقافية التي بدأت منتصف ستينيات القرن الماضي. لم يعلم ماو، أن قلب أُمّ شي جين بينغ سيكون نورًا للكهف، وأن الكهف في كثير من الأحيان، كما في حالة ابنها، سيتحول إلى فرصة لا منفى.
نُفي شي مرتين، الأولى قسرًا فاستغلها لبناء ذاته، والثانية نفى نفسه بإرادته، وعاد إلى الريف شابًّا يحمل "قلب الأم" مرة أخرى، ومن هناك صعد ليصبح رئيسا.
عودة إلى الوراء، إلى عام 1953، حيث ولد شي لأسرة تنتمي إلى "النخبة الحمراء". والده، شي تشونغ شيون، نائب رئيس الدولة آنذاك، كان أحد رفاق ماو تسي تونغ، وأحد الوجوه البارزة في النظام الثوري الصيني. ولكن مع الوقت، ولأسباب مثل إعجابه برواية حظرها ماو، يتحول نائب رئيس الدولة إلى مُعتقل سياسي لدى رفيقه القديم، وتُجبر أمه على العمل الشاق في المزارع، وشي لا يزال طفلًا.
عندما يتحدث شي عن تلك الحقبة، يصفها بأنها "بائسة"، فقد طُلب منه مرارًا أن يُدين والده علنًا، لكنه رفض. وكانت تلك الفترة بائسة بالفعل، لا على شي وحده، بل على البلاد جميعها. ففي يناير/كانون الثاني 1967، وبعد أشهر من انطلاق الثورة الثقافية، شاهد شي وهو في الثالثة عشرة من عمره والده يُجرّه الحرس الأحمر في إهانة بالغة أمام حشود ساخرة. كان من بين الاتهامات التي اتُّهم بها شي الأب أنه قد نظر عبر منظار مكبر إلى برلين الغربية خلال رحلة رسمية لألمانيا الشرقية قبل سنوات.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي