كيف يستقبل تلميذ لبنان المدرسة لهذا العام مع دخول شهر أيلول؟

كيف يستقبل تلميذ لبنان المدرسة لهذا العام مع دخول شهر أيلول؟

 

Telegram

مع حلولِ شهرِ أيلول، يستيقظ لبنان على مشهدٍ يتكرَّر كلَّ عام، لكنْ بأثقالٍ أشدَّ وأوجاعٍ أعمق. يبدأ التلميذ عامَه الدراسيَّ مُثَقَّلًا بهواجسَ لا تليقُ بعمرِه، فيما المدارسُ نفسُها تتحوَّلُ إلى مرآةٍ للأزماتِ الوطنيَّةِ الكبرى. فأيلولُ لم يعُدْ شهرَ الحماسةِ والكتبِ الجديدةِ وحدها، بل صارَ شهرَ القلقِ، والانتظارِ، والمواجهةِ مع واقعٍ يزدادُ قسوةً.
التلميذ بين الطموحِ والواقعِ المرِّ
يدخل التلميذ اللبناني إلى المدرسةِ هذا العام محاطًا بظروفٍ اقتصاديَّةٍ خانقةٍ. أقساط المدارسِ الخاصَّة ارتفعت بشكلٍ فاحشٍ، حتّى صارَ الدخول إليها أشبهَ بترفٍ لا يقدِرُ عليه إلَّا قلَّةٌ من العائلاتِ. لم تعُدِ المسألةُ مرتبطةً بجودةِ التعليمِ أو المناهجِ وحدَها، بل بمعادلةٍ اجتماعيَّةٍ قاسيةٍ: مَنْ يملكِ المالَ يملكْ حقَّ التعلُّمِ الجيّدِ، ومَنْ لا يملكْه يجدْ نفسَه على هامشِ الحقِّ الأوَّلِ الذي يُفترضُ أن يكونَ مكفولًا للجميعِ. هذه الفجوةُ لا تُهدِّد التلميذَ وحسبْ، بل تُهدِّد فكرةَ المساواةِ والعدالةِ في المجتمعِ كلِّه.
المدرسة بين الغلاءِ والتنافسِ الوهميِّ
المدارس الخاصَّة لم تعُدْ تكتفي بزيادةِ الأقساطِ لتغطيةِ نفقاتها، بل راحت تتنافس في رفعِ الأسعارِ وكأنَّها تُثبت مكانتَها عبرَ الغلاءِ. هذا المشهد يضع الأهلَ أمامَ معادلةٍ قاسيةٍ: إمَّا أن يضحُّوا بأقسى ما يملكونَ كي يُوفِّروا مقعدًا دراسيًّا لأولادِهم، أو أن يستسلموا لتعليمٍ رسميٍّ يَئِنُّ تحتَ وطأةِ الإهمالِ والتسييسِ. والنتيجةُ واحدةٌ: قلقٌ عائليٌّ متواصلٌ ينعكسُ على نفسيَّةِ التلميذِ الذي يرى نفسَه رهينةَ نزاعاتِ الكبارِ وفسادِ المؤسَّساتِ.
المعلِّم المنهك وصورة المفارقةِ
أمَّا المعلِّم، فهو أكثرُ مَنْ يدفعُ الثمنَ. يقف في الصفِّ بجهدٍ مضاعفٍ، وهو بالكادِ قادرٌ على تأمينِ لقمةِ عيشِه. في لبنان، صارَ المعلِّمُ يذهبُ في كثيرٍ من الأحيانِ إلى الشارعِ ليطالبَ بأبسطِ حقوقِه، فيما يرى زملاءَه في أوروبا وأميركا يحظَونَ بالاحترامِ والرعايةِ والحقوقِ. هذه المفارقةُ القاسيةُ تُفقِدُ التعليمَ جوهرَه: فكيفَ لمربٍّ مُثقَلٍ بالديونِ والهمومِ أن يمنحَ تلاميذَه الأملَ والمعرفةَ كما ينبغي؟
المناهجُ القديمةُ وغيابُ الإصلاحِ الجدِّيِّ
رغمَ كلِّ الوعودِ، ما زالتِ المناهجُ التربويَّةُ شبهَ جامدةٍ، كأنَّها تعيش خارجَ الزمنِ. محاولاتُ التعديلِ جاريةٌ، لكنَّها بطيئةٌ، جزئيَّةٌ، وغالبًا مشوبةٌ بالتجاذباتِ السياسيَّةِ. والنتيجة أنَّ التلميذَ يدخل إلى صفِّه بكتبٍ لا تُعبِّرُ عن واقعِه، ولا تُواكِبُ حاجاتِه، ولا تُعِدُّه لمستقبلٍ يتغيَّرُ بسرعةٍ. إنَّها مناهجُ تُدرِّسُ الماضي أكثرَ ممَّا تُفكِّرُ في المستقبلِ.
الأهل بين القلقِ والاستنزافِ
الأهل هم الحلقة الأكثرُ إنهاكًا. يعملونَ ليلَ نهارٍ كي يُؤمِّنوا أقساطًا خياليَّةً، وكتبًا مُبالغًا في أسعارِها، ونقلًا يستهلكُ نصفَ الدخلِ، فيما مستقبلُ أولادِهم يبقى رهينةَ المجهولِ. هذا الاستنزافُ النفسيُّ والماليُّ يُترجَمُ داخلَ البيتِ توتُّرًا متواصلًا، ينعكسُ بدورِه على التلميذِ. ولعلَّ أخطرَ ما في الأمرِ أنَّ التعليمَ، بدلَ أن يكونَ مصدرَ طمأنينةٍ، صارَ مصدرَ خوفٍ دائمٍ.
البعدُ النفسيُّ: التلميذُ الضحيَّةُ الصامتةُ
في كلِّ هذه الدوَّامةِ، يبقى التلميذُ الضحيَّةَ الصامتةَ. يحملُ حقيبتَه الثقيلةَ، يفتحُ كتابَه، لكنَّ عينيْه لا تُخفيانِ الأسئلةَ: هل سأُكمِلُ سنتي الدراسيَّةَ؟ هل سيقدِرُ أبي على دفعِ القسطِ؟ هل ستُغلقُ المدرسةُ أبوابَها فجأةً؟ إنَّها هواجسُ لا تليقُ بطفلٍ أو مراهقٍ، لكنَّها باتت جزءًا من يوميَّاتِه، تُضعِفُ قدرتَه على التعلُّمِ، وتزرعُ فيه مبكرًا شعورًا باللاجدوى.
صرخة مجتمعٍ قبلَ فواتِ الأوانِ
أمامَ هذه الصورةِ القاتمةِ، يصبحُ السؤالُ أكبرَ من: “كيفَ يبدأ التلميذ عامَه الدراسيَّ؟”. إنَّه سؤالٌ عن مصيرِ وطنٍ بأكملِه. فالتعليمُ ليس قطاعًا ثانويًّا، بل هو العمودُ الفقريُّ لبقاءِ لبنان. وإذا انهارَ التعليمُ، لن يبقى شيءٌ من فكرةِ الوطنِ. من هنا، فإنَّ المسؤوليَّةَ تقعُ على الدولةِ أوَّلًا، وعلى المجتمعِ المدنيِّ، والإعلامِ، والنُّخبِ الفكريَّةِ، أن يرفعوا الصوتَ كي لا يسقطَ القلمُ من يدِ التلميذِ.
خطواتٌ مطلوبةٌ، ولو بحدِّها الأدنى
لا يكفي أن نصفَ الألمَ، بل لا بدَّ من مقاربةِ حلولٍ، حتَّى وإنْ بدتْ بسيطةً أمامَ الأزمةِ. المطلوبُ اليوم أن تُعطى المدرسةُ الرسميَّةُ أولويَّةً قصوى عبرَ خططِ طوارئَ واضحةٍ، وأن يُنشَأ صندوقُ دعمٍ عادلٌ للطلَّابِ الأكثرِ حاجةً في المدارسِ الخاصَّةِ. كما أنَّ تحييدَ التربيةِ عن الصراعاتِ السياسيَّةِ لم يعُدْ ترفًا، بل صارَ شرطًا لإنقاذِ ما تبقَّى من الأملِ. هذه خطواتٌ قد تبدو أوليَّةً، لكنَّها حجرُ الأساسِ لكلِّ إصلاحٍ جدِّيٍّ لاحقٍ.
خاتمة: صرخةُ معلِّمٍ.. أنقِذوا القلمَ قبلَ أن يسقطَ!
إلى القارئ.. هذا ليس مقالًا فحسب، بل هو استغاثةُ أولادِنا.
حين تُقرأُ هذه الكلماتُ، يكونُ تلميذٌ في مكانٍ ما من لبنانَ قد أغلقَ دفترَه، وحملَ حقيبتَه، وعادَ إلى بيتٍ قد لا يكونُ أفضلَ حالًا من مدرستِه. هو لا يعرفُ شيئًا عن مصطلحاتِنا الكبيرةِ: “الانهيارُ الاقتصاديُّ”، “أزمةُ الموجوديَّةِ”، “المناهجُ المتقادمةُ”. كلُّ ما يعرفُه أنَّه يريدُ أن يتعلَّمَ. أن يكونَ طبيبًا، أو مهندسًا، أو ربَّما مجرَّد إنسانٍ قادرٍ على فهمِ هذا العالمِ المتشظِّي من حولِه. مسؤوليَّتُنا ليست أن نكتبَ عن أزمتِه فقط، بل أن نضمنَ له أن يكتبَ مستقبلَه.
وكاتبُ هذه السطورِ، الذي أمضى عقديْنِ ونيفًا في مهنةِ التدريسِ، يقولُها بمرارةٍ: لقد كادَ المعلِّمُ أن يكونَ رسُولًا، لكنَّ الزمانَ والمكانَ لم يعودا يتلاءمانِ مع واقعِ بلادِنا. أُصرُّ على رسالتي أمامَ تلاميذي، لكنَّني، وفي قرارةِ نفسي، لا أسمحُ لأحدٍ من أولادي أن يسيرَ على خطاي. هذه هي المفارقةُ الأكثرُ قسوةً التي تُحطِّمُ قلبَ كلِّ مربٍّ: أن تؤمنَ بالتعليمِ كأقدسِ رسالةٍ، ولكن أن ترفضَها كمصيرٍ لأولادِك. لأنَّ قلمَ ذلك التلميذِ هو آخرُ ما تبقَّى من أقلامِنا جميعًا، وإنْ سقطَ، سقطْنا.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram