حَمَل خطاب الـ14 دقيقة الذي ألقاه رئيس مجلس النواب نبيه بري في ذكرى اختطاف الإمام السيد موسى الصدر كثيراً من الرسائل التي تفاوتت القراءات لها تبعاً لهوية المتلقّي وتموضعه.
بدا واضحاً انّ خطاب الرئيس بري شكّل خيبة أمل للفريق الداخلي - الخارجي الذي كان يراهن على أن يتمايز الرجل عن «حزب الله» في مقاربته لملف السلاح والورقة الأميركية، علماً انّ الرهان على افتراق الجانبين ليس مستجداً، بل هو قديم ويصرّ أصحابه على محاولة إنعاش «خلاياه الميتة» عند كل محطة مفصلية، من دون أن يتمكنوا من ربحه في أي مرّة.
والمشكلة التي تواجه هؤلاء في استمرار، هو انّهم لا يحسنوا حتى الآن فك شيفرة بري وقراءة كفّه السياسي على رغم من تجاربهم الكثيرة معه، إذ لا تزال تلتبس عليهم رسائله في غالب الأحيان، ويسيئوون فهم دلالات سلوكه الذي يوائم بين التكتيك المرن والاستراتيجيا الراسخة او بين المناورة المشروعة والثوابت المتجذرة، ما يصيبهم بالخيبة تلو الأخرى.
ولعلّ إحدى الإشكاليات التي تواجه المحبطين من مواقف بري، هي انّهم لا يزالون يخلطون بين منصبه الرسمي كرئيس لمجلس النواب يستقبل الجميع، ويفاوض، ويدوّر الزوايا، ويبحث عن قواسم مشاركة ويسعى إلى التسويات السياسية، وبين موقعه «التأسيسي» كرئيس لحركة «أمل»، هو شريك في المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وليس فقط داعماً لها، وبالتالي فإنّ العارفين بمكنوناته و»بطانته» لم يتفاجأوا بتأكيده في خطابه الأخير انّ السلاح «عزّنا وشرفنا».
وإذا كان البعض قد اعتبر انّ هذه العبارة تعكس حجم الإنسجام بين الحركة و»حزب الله» في تحديد معنى السلاح، الّا انّ هناك مَن لفت إلى انّ ما قاله بري إنما يؤشر بالدرجة الأولى إلى تصالحه مع نفسه واقتناعاته، في اعتباره من المساهمين الأساسيين في إطلاق المقاومة بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ومن الداعين إلى عدم التفريط بها بمعزل عن طبيعة الصيغة التي ستتخذها ضمن استراتيجية الأمن الوطني المفترض أن يحصل في شأنها «حوار هادئ».
وبري المعروف بأنّه معتدل ومتخصص في مدّ الجسور على المستوى الداخلي، يستحيل متصلباً و«متطرفاً» عندما يتعلق الأمر بما يمكن أن يراه تهديداً للميثاقية ولموقع المكون الشيعي في نسيجها المرهف. ذلك أنّ رئيس المجلس الذي خاض عبر تاريخه معارك كثيرة وصعبة لتصحيح التوازن الطائفي والسياسي وتعديل قواعد الاشتباك في النظام، يبدو متحسساً إزاء كل ما يمكن أن يوحي بالعودة إلى سياسة التهميش والإخلال بالتوازنات، كما حصل عندما اتخذ مجلس الوزراء قراراً بسحب سلاح «حزب الله» وبالموافقة على الورقة الأميركية بعد انسحاب وزراء «أمل» و«الحزب» من جلستي 5 و 7 آب الشهيرتين، وضمن هذا السياق أتى تشديده على رفض أي نقاش حول مصير السلاح تحت وطأة التهديد وضرب الميثاقية واستباحة الدستور.
وكان لافتاً أيضاً انّ بري ألقى خطابه في ظلال شعار «لبنان وطن نهائي»، وذلك في لحظة يواجه فيها الكيان اللبناني خطراً وجودياً، على وقع محاولات إعادة رسم خرائط دول الشرق الأوسط ومجاهرة بنيامين نتنياهو بأنّه يطمح الى «إسرائيل الكبرى» التي من شأنها ان تبتلع جوارها، وبالتالي فإنّ التشديد على نهائية الوطن في هذا الظرف ليس ترفاً فكرياً بل هو تثبيت للحدود والهوية في مواجهة التهديدات الداهمة، وفق ما يوضح القريبون من بري.
وضمن سياق التعليق على حملات التنمر والشيطنة التي تستهدف الطائفة الشيعية، لفت بري إلى أنّ هذه الطائفة هي مؤسِسة للكيان اللبناني، في ردّ على جميع المشككين في انتمائها، وكأنّه بذلك كان يرفض كل فحوص الدم وامتحانات الولاء الوطني التي يُراد إخضاع المكون الشيعي لها، وهو الذي بذل ما بذله من أثمان، بعدما شاءت الجغرافيا أن يجاور المخاطر على الحدود الجنوبية والشرقية.
وبري الذي اختبر في عهد الرئيس امين الجميل تداعيات زجّ الجيش في نزاعات الداخلية، أراد أن يضع عصارة تجربته في تصرف القيادتين السياسية والعسكرية، محذّراً من «رمي كرة النار في حضن الجيش»، على مسافة أيام قليلة من موعد عرض خطته لحصر السلاح على جلسة مجلس الوزراء المقرّرة الجمعة المقبل. فهل سيسمع المعنيون جرس الإنذار؟
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :