يعالج كتاب الفلسفة الرواقية من زينون إلى سعاده لمؤلفه الأمين الدكتور إدمون ملحم تاريخ الفلسفة الرواقية وتأثيرها في الفلسفات الأخرى والأديان وفي الحياة السياسية على مر العصور، هذه الفلسفة التي استقى منها أنطون سعاده الكثير من أفكاره ورؤاه، والتي كانت أحد المشارب الأساسية الملهمة له خلال مراحل صياغته لعقد اجتماعي يؤسس لنهضة الأمة السورية، يظهر هذا الكتاب عمق معرفة الكاتب العلمية بالمدرسة الفلسفية الرواقية وبالمدراس الفلسفية المعاصرة لها، والتي كانت تُدرّس إلى جانبها وتدخل في تنافس معها في كثير من الأحيان.
صدر الكتاب عن مؤسسة سعاده الثقافية عام 2022م، والذي قامت بنشره دار أبعاد في بيروت، وقد بلغ عدد صفحاته مئتين وسبع وثلاثين صفحة، ويتكون الكتاب من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة ومن ثم ذكر لأهم المراجع التي استخدمها الباحث، وقد خصص ملحم الفصل الأول لنقاش الفكر الفلسفي ما قبل زينون الرواقي وفيه يتناول أراء بعض الفلاسفة والمؤرخين الغربيين بالفلسفة اليونانية والذين انقسموا حسب رأي المؤلف إلى فريقين الأول مثال: بورنت J. Burnet وبرتراند راسل Bertrand Russell وألبير ريفيو Albert Revue والذين يؤكدون أن الفلسفة اليونانية قائمة بذاتها ولم تتأثر بالعلوم الشرقية سواء المصرية أو الرافيدينية القديمة، أما الفريق الثاني فيعتقدون بأن الفلسفة اليونانية ما هي إلا نتاج لفلسفات سبقتها ومن أهم من قال بهذا الرأي المؤرخ جوستاف لوبون Gustave Le Bon وهذا العالم يرى بأن علم الآثار والكشوفات الأثرية قد أثبتت أن أصول كل العلوم اليونانية مردها إلى العلوم الشرقية السابقة لها بمئات إن لم نقل بألآف السنين.
وكذلك فإن كبار وعظماء الفلسفة اليونانية قد زاروا سوريا القديمة وعاشوا فيها فترات متقطعة، ومن أهم أؤلئك الفلاسفة فيثاغوروث وطاليس وأفلاطون وأرسطو. ولا يغفل الدكتور ملحم هنا فضل الإغريق على الإنسانية فالفيلسوف سقراط الذي رفض أن يتسمى حكيماً بل فيلسوفاً كان له أفضل الأثر في نقل الفلسفة من السماء إلى الأرض، والذي يرجع له الفضل في تأسيس علم الأخلاق وكذلك ظهر في اليونان أول الفلاسفة الذين فكروا بالمادة التي يتألف منها الوجود ومن ثم تبعهم الطبيعيون وكذلك فإن الفلاسفة الإغريق كانوا المعلمين الأوائل لفن الخطابة أما المذهب الجدلي أو السفسطائي فقد كان له رواده من مختلف المدارس الفلسفية الإغريقية وهنا يستشهد ملحم بمقول لأنطون سعاده حول السفسطائيين فيقول: لا مشاحة في أنّ الصوفستيين الإغريق الذين نعتت مدرستهم وطريقتهم بالسفسطة، أحدثوا تطوراً فلسفياً عظيماً بنقلهم موضوع الفلسفة من الكون إلى الإنسان.
أما الفصل الثاني فقد خصصه المؤلف للحديث عن زينون الرواقي حيث يقوم بالتعريف بالفيلسوف السوري زينون Zeno وهو ابن مدينة كيتيوم الفينيقية في قبرص، وقد وفد إلى مدينة أثينا مع أبيه التاجر منسى والذي تعود أصوله إلى مدينة صور الفينيقية، ويشير ملحم إلى أن زينون ولد في كيتيوم عام 332ق.م حيث التحق زينون بالفلسفة الإغريقية في سن الواحد والعشرين فاطلع على نظريات سقراط وتلاميذه كما قرأ أساطير وأديان البابليين والفينيقيين، وفي أثينا تعرف زينون على أقريطس الكلبي Crates of thebes والذي أفاد منه زينون أيما إفادة فمن خلال أقريطس استطاع زينون أن يتعرف على فلسفة الكلبيين وبما تنطوي عليه من نمط الحياة العملية، كما حضر زينون دروس بعض الفلاسفة الإغريق الأخرين ومنهم ستيلبون الميغاري كما كانت لفلسفة أفلاطون وأرسطو وهيراقليط دور كبير في بدايات خطواته المعرفية، ومن بعد صقل معارفه الفلسفية اتجه زينون للتعليم بمفهوم القدوة الطيبة فكان خير مثال للفيلسوف الأخلاقي فقد كانت حياته مكسوة بالعفة والقناعة والاعتدال والسيطرة على الأهواء، كما اتصف زينون بوقاره وصبره وباحترامه للوقت والمواعيد، وتقشفه في الطعام والأحاديث على حدي سواء فهو القائل: للإنسان لسان وأذنين ليسمع أكثر مما يتكلم.
وبفضل هذه الصفات الاخلاقية الحميدة عدّه الأثينيون أحد أهم الرموز في ذلك العصر حتى أصبح مضرباً للمثل لشدة حلمه وصبره على الشدائد، ويعرّج الدكتور ملحم على ذكر عناوين مؤلفات الفيلسوف السوري زينون والتي فقد معظمها ولم يبق منها سوى بعض الشذرات التي أتى على ذكرها الفلاسفة اللاحقين مثال: ديوجانس اللائرسي في مؤلفه “حياة مشاهير الفلاسفة” ومن تلك المؤلفات: الكون والحياة وفقاً للطبيعة والكليات ومذكرات أقراطيس، وفي ختام هذا الفصل يتطرق المؤلف إلى وفاة الفيلسوف زينون فيقول: توفي زينون في الثامنة والتسعين من عمره دون أن يصاب بمرض ويقال أنه خرج من مدرسته فسقط فتكسّر إصبعه فاعتقد أن السماء تريد أن يموت في الحال وتأمره بالانتحار….وبادر حالاً لتنفيذ أوامر السماء وأنهى حياته مختنقاً بيده عام 264ق.م.
أما الفصل الثالث فقد خصصه الدكتور ملحم لشرح كيفية تأسيس المدرسة الرواقية بعد حصولها على رواق وسط مدينة أثينا في العام 300ق.م، والذي كان مزداناً برسوم جدارية فنية جميلة للفنان السوري الأصل بوليخنوتوس Polygnotos ذلك الفنان المولود في جزيرة ثاثوسThasos في اليونان حوالي العام 500 قبل الميلاد تقريباً والمتوفى عام 440 قبل الميلاد ونسبة لذلك الرواق اشتق اسم الفلسفة الرواقية. لقد كان الفيلسوف زينون يتبع طريقة الفيلسوف أرسطو في التمشي داخل الرواق أثناء حواراته مع طلابه كما استطاعت الرواقية إخراج الفكر اليوناني خارج أسوار المدينة -الذي كان يعد أن الدولة المثال هي دولة المدينة المقسمة إلى طبقات- إلى عالم الوفاق والحرية في المدينة الكونية الموحدة والتي تعد البشر جميعاً أسرة واحدة تجمعهم رابطة أخلاقية وثقى تنتفي معه كل أشكال التمييز بين البشر تحت سلطة العقل المحب الجامع. ويرى المؤلف أن الرواقية انتشرت بعد وفاة زينون وامتدت تعالميها حتى وصلت عصرنا الحديث، والذي يدلل فيه على الرواقي إذا حاز صفات ثلاث وهي التحرر من الأهواء وعدم الخضوع للأفراح والأحزان والاستسلام لقانون القضاء كما أن المنظمات الدولية والتي تعمل تحت مظلة القوانين الدولية ما هي إلا امتداد لفكر الفلسفة الرواقية ويشير المؤلف في هذا الفصل إيضاً إلى المراحل التي مرت بها الرواقية وهي: الرواقية القديمة (332-204 ق.م) وتميزت بوجود زينون والفيلسوف أخريزيبة، أما المرحلة الوسطى فامتدت خلال القرنين الثاني والأول قبل الميلاد وقد تميزت بوجود الفلاسفة ديوجان السلوقي البابلي Diogenes وأنتيباتروس الطرسوسي Antipater وبوسيدونيوس الأفامي Posidonius أما المرحلة الثالثة فتدعى الرواقية الحديثة والتي انتشرت ابتداءً من القرن الأول الميلادي ولغاية قرار الإمبراطور جوستنيان إغلاق المدارس الفلسفية في أثينا عام 529 ميلادية، وقد مثل الرواقية في هذه المرحلة كل من الفيلسوف الروماني سِنِكا Senecaوموسونيوس روفوسMusonious Rufus والإمبراطور الفيلسوف مارك أوريل Marcus Aurelius .
أما الفصل الرابع والذي عنونه الدكتور ملحم بـ العقيدة الرواقية فيتناول فيه نظرة الرواقيين للمساواة بين الناس فهم جميعاً يجب أن يعيشوا بتوافق وتناغم مع الطبيعة العقلية، وبخضوع تام للقانون العام الكوني كل ذلك لأجل الوصول إلى الفضيلة وهنا تعارض الفلسفة الزينونية فلسفة كل من فيثاغوروث وأرسطو فالبشر في نظر الفلسفة الرواقية متساوون جميعهم فلا امتياز لشخص على أخر وقد أثرت الفلسفة الرواقية في تفكير الأباطرة الرومان الصالحين الذين منحوا المواطنة الرومانية للكثير من سكان الإمبراطورية ومن أهم الأمثلة هنا إصدار الإمبراطور كاركلا لمرسوم عام 212 ميلادية، وفي هذا الفصل يقدم الدكتور ملحم حول الفضيلة والسعادة من المنظور الرواقي فالفضيلة تصطنع في الحياة العملية وليس من خلال الآراء النظرية وهو ما يحقق إمكانية تطبيق الفضيلة والسعادة لدى كل أفراد المجتمع الكوني الواحد فالفضيلة علم وصناعة تتأتى من خلال الهدوء والصفاء والنقاء بعيداً عن الإضطرابات النفسية وكل ذلك تحت سلطة العقل فالحياة المنسجمة مع الطبيعة تولد الخير الأعظم والحكيم هو من يعرف قوانين الطبيعة ويتوافق داخلياً مع تلك القوانين وهنا يستشهد المؤلف بقول للفيلسوف زينون: إن الإنسان يرتقي من حالة الحماقة إلى الحكمة بالتطهر الروحي من الإنفعالات بقوة العقل. ومن أهم الفلاسفة الرواقيين الذين اشتغلوا على هذا الموضوع هو الفيلسوف إبكتيتوس والذي رأى بأن طريق الحكمة مرهون بانتزاع الانفعالات والركون إلى الهدوء والطمأنينة فالهدوء يوصل إلى السعادة وهنا يعود المؤلف للاستشهاد بقول للفيلسوف زينون عندما سئل: أي الملوك أفضل ملك اليونان أم ملك الفرس فأجاب بقوله: من ملك غضبه وشهوته.
وفي هذا الفصل يسرد المؤلف بعضاً من خصال الحكيم الرواقي والتي تتلخص في المثالية والفضيلة التي يحياها ويسلكها خلال حياته فالخير الأسمى يتعين في قوة الذهن وبُعد النظر والسّمو، والحرية، والانسجام، والجمال. وكذلك فإن الحكيم الرواقي بعيد كل البعد عن الإنفعالية والحسد والشفقة والحزن فهو حاذق في كل فن وصنعة وعلى دراية باللاهوت والناسوت ويورد المؤلف هنا أهم خصال الحكيم الرواقي ومنها: الإخلاص والصدق والحرية والتقشف والابتعاد عن اللذة والتواضع فسلطته على ذاته وإراته تجعلانه يتحكم في مسارات حياته وهنا يستشهد المؤلف بقول للفيلسوف الإمبراطور مارك أوريل: كن صريحاً مخلصاً مستمسكاً بالفضيلة ملازماً التواضع ومتحرياً الجدّ والوقار وانشد العدل على أن تكون كما ترضى لك الفلسفة، واحترم الآلهة، وادفع السوء عن البشر فهذه الحياة قصيرة المدى، وكل ما تستطيع أن تغنمه من فوائدها هو التقوى والأعمال النزيهة الخالصة.
د. عبد الوهاب أبو صالح
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :