يواجه بلد المياه والينابيع اليوم واحدة من أخطر الأزمات، وهي تدهور المنظومة المائية، التي هي نتيجة لأكثر من عامل، أبرزها: تغيّر المناخ، سوء الإدارة والإهمال، وغياب الإرادة السياسية، وهنا لا بد من التذكير بأن غياب سياسات جدية لإصلاح المنظومة أو لمواجهة الكارثة المقبلة، بالإضافة إلى أن المشاريع تبقى رهينة الحسابات الطائفية والمناطقية.
وفي الواقع، يتبيّن من حدة الأزمة واستفحالها في الكثير من المناطق اللبنانية أن الخسائر لن تقتصر على الزراعة إطلاقًا، إذ ستطال القطاع البيئي وتتمثل بانقراض أنظمة بيئية، ونضوب ينابيع، وتدهور غابات، فيما سيشهد القطاع الاجتماعي خلال فترة ليست بطويلة نزوحًا داخليًا من المناطق الزراعية، وتفاقم الفقر، واشتداد الهشاشة المجتمعية في بلد يمتلك 14 نهرًا و2000 نبع .
أما اقتصاديا، فإن القطاعات الصناعية والتجارية المرتبطة بالقطاع الزراعي وبعامل توافر المياه ستتأثر بانخفاض الإنتاج الزراعي، من خلال تضخم أسعار الغذاء، وتراجع الاستثمارات في المناطق الريفية.
وفي هذا السياق، تعزو المنسقة السابقة للأمم المتحدة والخبيرة في الشؤون البيئية الدكتورة فيفي كلّاب تدهور المنظومة المائية إلى عدة أسباب متشابكة منها بيئية وسياسية واجتماعية أبرزها: التغيرات المناخية وغياب استراتيجية واضحة لإدارة المياه، مرورًا بضعف البنى التحتية، وانتشار الفساد وتلويث الأنهار والبحيرات.
وبرأي كلاب فإن التغيرات المناخية تؤدي إلى:
– تناقص كمية المتساقطات وتبدل في أنماطها، متقطعة وغير منتظمة، غزيرة في فترات قصيرة لا تسمح للتربة بتخزينها، فيجري معظمها إلى البحر ما يقلل من تغذية الأنهار والمياه الجوفية .
– ارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى ذوبان الثلوج بسرعة أكبر وفي وقت مبكر، ما يقلل من احتياطي المياه في الصيف، كما يزيد في معدلات التبخر في المسطحات المائية، ويزيد من حاجة القطاع الزراعي للري.
– انخفاض مستوى مياه الآبار الارتوازية في المناطق الساحلية ما يؤدي إلى تداخل مياه البحر فيها، فتملحها وتجعلها غير صالحة للاستخدام. وهناك 70 % من أبنية بيروت تعتمد على الآبار الارتوازية .
وتشرح كلاب مستدركة بأن كل هذا لا يفسر وحده التدهور السريع في لبنان، لأن بلدانًا مجاورة تعاني نفس الظروف المناخية لكنها لا تعيش أزمة بهذا الحجم، معتبرة أن السبب الرئيسي يعود إلى سوء الإدارة وغياب الإرادة السياسية.
فعلى سبيل المثال البنى التحتية مهترئة، والإهمال في صيانة الشبكات مزمن .
وتضيف “قد تصل نسبة الهدر إلى 60 %، فيما باتت مصادر المياه ملوثة بشكل خطير بمياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية ( نهر الليطاني وبحيرة القرعون )، إضافة إلى غياب الإدارة المستدامة التي تحتاج إلى استراتيجية وطنية فعالة لإدارة الطلب على المياه، وخطة لترشيد الاستهلاك الزراعي، ومعالجة سوء إدارة الأموال المخصصة للمشاريع المائية، ومنع حفر الآبار العشوائية”، لافتة إلى أن هذا يخفف من استنزاف المياه الجوفية، على أن يتزامن ذلك وكشرط مع مكافحة الفساد وتفعيل الرقابة، مذكّرة بالسدود الحالية التي لا يعمل معظمها بكامل طاقته بسبب سوء التخطيط والفساد.
بدوره، لا ينفي رئيس جمعية “أرض لبنان” بول أبي راشد أن تغيّر المناخ يُشكّل عاملًا ضاغطاً بلا شك، إذ يسهم في ارتفاع درجات الحرارة، وتراجع الهطول المطري، وتكرار موجات الجفاف، ما يجعل الموارد المائية أكثر تقلبًا وهشاشة.
غير أن هذا العامل لا يمكن أن يبرّر الانهيار الكامل لمنظومة المياه في بلد عُرف تاريخيًا بغزارة ينابيعه ووفرة مياهه.
وينسجم أبي راشد مع كلاب في اعتباره أن السبب الأعمق يكمن في سياسات الإدارة الفاشلة التي كرّست الهدر والفساد وسوء التخطيط.
فشبكات التوزيع القديمة ما زال يتسرّب منها أكثر من 40 % من المياه، والمشاريع الكبرى كالعديد من السدود لم تثبت جدواها، بينما يتم تجاهل حلول أكثر استدامة مثل الحصاد المائي، وإعادة الاستخدام، وحماية الأحواض الجوفية.
ويؤكد: الخطير أن هذه السياسات تُمارَس رغم كل التحذيرات، ما يدلّ على غياب الإرادة الصادقة لمواجهة الأزمة قبل أن يتحوّل لبنان إلى صحراء عطشى.
ويشدد على “أن الخسائر لا تقتصر على القطاع الزراعي، فالنسيج البيئي مهدد، من الغابات إلى الحياة البرية. أما على الصعيد الاقتصادي، فشحّ المياه يؤدي إلى تقلّص الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وتراجع فرص العمل. وعلى المستوى الاجتماعي، تتسارع الهجرة من الأرياف، وتتزايد التوترات بين المناطق على خلفية تقاسم المياه”.
ووفق أبي راشد فإن الخروج من هذا النفق يتطلب ما هو أكثر من حلول تقنية؛ إذ بات يحتاج إلى رؤية واضحة، وإدارة متكاملة وعادلة للمياه، واستثمار في البنية التحتية والصمود المناخي، مع تفعيل الرقابة والمحاسبة.
فالماء ليس ترفًا، بل حق إنساني وشرط أساسي لبقاء الوطن والعيش بكرامة.
تعد أزمة المياه في لبنان من التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، رغم أن لبنان يُعد من أغنى بلدان الشرق الأوسط من حيث الموارد المائية مقارنة بمساحته. لكن الأزمة اليوم باتت واقعة، وأسبابها متعددة: الهدر وضعف البنى التحتية، وسوء الإدارة وغياب التخطيط، والتلوث، والتغيّر المناخي، وغياب الإرادة السياسية.
ولن يكون القطاع البيئي أيضًا بمنأى عن تداعيات الأزمة التي دخل لبنان في نفقها ولا أحد يمكن أن يحدد موعد خروجه منها.
إن أزمة المياه ليست قدرًا، بل نتيجة مباشرة للإهمال وسوء الإدارة، ويمكن احتواؤها بقرارات جريئة وإصلاح فعلي. ومنها تحديث الشبكات والبنى التحتية، تطبيق اللامركزية المائية، إنشاء سدود مدروسة بيئيًا، فرض رقابة على مصادر التلوث، وتعزيز التوعية بأهمية ترشيد الاستهلاك.
ويبقى السؤال المحوري: متى سنشهد ذلك؟ وهل سنشهد مسار الحلول يسير حتى النهاية بكل شفافية التي تعتبر أحد الأعمدة الرئيسية في نظام الحوكمة الفعّال؟
نسخ الرابط :