أثار الإعلان الذي تَوّج القمّة الثلاثية في واشنطن بين رئيس آذربيجان إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان والرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الجمعة الماضي، تساؤلات عمّا إذا كان يعني سلاماً نهائيّاً وحلّاً لجميع القضايا الخلافية بين باكو ويريفان. وتُوّجت القمّة بتوقيع وزيرَي خارجية البلدين المتنازعين إعلاناً من أجل «إقامة سلام وعلاقات» بينهما، برعاية ترامب. وممّا ورد فيه، أنّ الجانبين سيفتحان قنوات اتصال داخلية وثنائية ودولية على أساس احترام كل منهما وحدة أراضي الآخر وحدوده.
ونصّ الإعلان على إقامة تواصل مستمرّ بين أراضي آذربيجان وجمهورية نخجوان ذات الحكم الذاتي التابعة لها، عبر أراضي أرمينيا، في ما بات يعرف بـ«ممرّ زينغيزور» (سيونيك)، الذي أَطلق عليه اسم «طريق ترامب الدولي للسلام والازدهار»، فيما ذكر البيان أنّ الظروف تمهّد الطريق أمام طيّ صفحة العداء بين باكو ويريفان وعدم استخدام القوّة للاستيلاء على الأراضي، داعياً «مجموعة مينسك» لحلّ الأزمة، إلى حلّ نفسها.
وفي كلمته أثناء اللقاء، قال ترامب إنّ الاتفاق يمثّل فرصة مهمّة للسلام في القوقاز، معلناً، في خطوة لافتة، رفع العقوبات المفروضة على باكو في مجال الصناعات الدفاعية، مؤكّداً أنّ آذربيجان ستحصل على حقّ «الوصول الكامل» إلى نخجوان أيضاً. وأثنى باشينيان، بدوره، على جهود الرئيس الأميركي، واصفاً الإعلان بأنه «نقطة تحوّل»، ومعتبراً أنّ «مسار ترامب» نحو السلام سيفتح المنطقة كلّها أمام الازدهار.
أمّا علييف، فقال إنّ بلاده وأرمينيا وقّعتا اتفاق سلام بالأحرف الأولى، وإنّ ترامب «يستحقّ مَنحَه جائزة نوبل للسلام وسنرشّحه»، في خطوة تذكّر بترشيح رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، له في وقت سابق. أيضاً، وقّعت يريفان ثلاث مذكرات تعاون مع واشنطن حول الاستثمار في أرمينيا، ودعم مشاريع الطاقة والذكاء الاصطناعي فيها.
ولا شكّ في أنّ رعاية البيت الأبيض اتّفاقاً آذربيجانيّاً - أرمينيّاً تمثّل نقلة نوعية في العلاقات بين البلدَين، وإنْ كان ينبغي التوقّف عند النقاط الآتية:
1- إن الاتفاق ليس نهائيّاً، فهو «اتفاق بالأحرف الأولى»، يفترض أن تناقشه وتوافق عليه المؤسسات المحلّية في كلا البلدين. وإذا كانت السلطة في باكو موحّدة بيد إلهام علييف، فإنّ الأنظار ستتّجه إلى أرمينيا، حيث تواجَه خطوات باشينيان باعتراضات ليست بالقليلة، منذ الهزيمة أمام باكو في حرب عام 2020. وبالتالي، فإنّ سلوك الاتفاق طريقه إلى الإقرار في يريفان لن يكون سهلاً، وقد يثير قلاقل واضطرابات لمنع إقراره.
وفي هذا السياق، قال وزير خارجية أرمينيا السابق (1998-2008)، فارتان أوسكانيان، إنه «يجب ألّا يُبصر ممرّ زينغيزور/ سيونيك النور، فهو تفريط بسيادة أرمينيا، ولو كان بالشراكة مع أميركا، ولو كان لمئة عام أو لعام واحد»، معتبراً أنّ باكو تستخدم قضيّة الممرّ لـ«تقويض سيادة أرمينيا». وأضاف إنّ «مقترح ترامب ما هو إلّا محاولة لإضفاء شرعية الانتهاك على هذا الممرّ. إنهم يحاولون نقل النقاش من: هل ينبغي للممرّ أن يكون موجوداً؟ إلى: كيف ينبغي أن يكون موجوداً؟ وحينها، تكون السيادة قد تآكلت بالفعل».
ولفت إلى أنّ منطقة سيونيك (وفقاً للتسمية الأرمنية) التي يخطّطون ليمرّ عبرها الممرّ، تعتبر «حيوية جدّاً لأرمينيا وحلقة وصل بين الشمال والجنوب، فيما تعرّض المساومة عليها، أرمينيا، لمخاطر إستراتيجية»، مؤكّداً أنه «لم يكن ينبغي على أرمينيا أساساً أن تقبل بالنقاش حول الممرّ، والموقف المبدئي هو رفض الفكرة من أساسها».
يشكّل رفع العقوبات العسكرية الأميركية عن آذربيجان، مكافأة لإلهام علييف على دعمه المطلق لإسرائيل
ولا تقتصر معارضة الاتفاق على الداخل، ذلك أنّ موقف الدياسبورا الأرمنية، يعارض أساساً خطوات باشينيان منذ أعوام، ويعتبرها تنازلات تصل إلى حدّ الخيانة الوطنية. وأصدرت اللجنة العالمية لحزب «الطاشناق» بياناً عارضت فيه الاتفاق الجديد الذي «يُعدّ ضربةً لسيادة أرمينيا»، معتبرةً أنّ القرارات التي تتّخذها السلطة في أرمينيا بشكل سرّي «تنتهك الحقوق الجماعية والمصالح الحيوية للشعب الأرمني، وتخلق تهديدات جديدة أمام الأرمن، بل تضع وجود الدولة الأرمنية نفسها موضع شكّ».
وفي مقالة في «آغوس» الأرمنية الصادرة باللغة التركية في إسطنبول، تساءلت الصحيفة عمّا إذا كانت قمّة واشنطن ستمثّل انفراجةً بين البلدَين، أم مماطلة. وقالت: «عندما تحاول دولة قيادة المنطقة، تستنفر عواصم الدول الأخرى وتعرقل العملية»؛ وهو ما قد تفعله الآن روسيا وإيران، إضافة إلى المعارضة المحلّية في أرمينيا وفي العالم، لينتهي المطاف إلى انسحاب أميركا من العملية. ووفقاً للصحيفة، فإنّ على واشنطن دعم الاتفاق لا رعايته، وإنّ تحرّكات ترامب «استعراضية ولا تعكس موثوقية».
2- لعلّ أبرز بند في الاتفاق، وهو ما تحدّث به ترامب، أنّ ما يعرف بـ«ممر زينغيزور» أو «سيونيك»، سيتمّ تنفيذه عبر شركات أميركية بحقّ حصري لها لمدّة 99 عاماً. وهذا يضمن أمرَين: سيادة أرمينيا (الشكلية) على الممرّ، وحقّ آذربيجان في الوصول الكامل إليه. كما أنّ الممرّ سيمثّل، في حال شقّه، ضربة كبيرة لكلّ من روسيا وإيران، وانتصاراً كبيراً لتركيا.
3- يعتبر الاتفاق إحدى ثمار التحالف التركي - الآذربيجاني في وجه أرمينيا، إذ كان لأنقرة دور كبير فيه، فيما لم يفعل ترامب سوى «قطف» الصورة النهائية. كما سيعتبر فتح «ممرّ زينغيزور» انتصاراً كبيراً لتركيا لجهة توسيع النفوذ الطوراني إلى كل العالم التركي، لا سيّما أنّ الممرّ المذكور يعرف في تركيا بـ«ممرّ طوران»، في حين تُتوقّع، نتيجة الاتفاق، عودة العلاقات الديبلوماسية والتطبيع الكامل بين يريفان وأنقرة.
4- يعدّ الاتفاق ضربة أخرى قاسية للنفوذ الروسي في القوقاز. وأكثر من ذلك، تشهر واشنطن راية تحدّي موسكو عبر إطلاق اسم ترامب على «ممرّ زينغيزور»، في وقت كان يفترض فيه، وفقاً لاتفاق 2020، أن يكون الممرّ في عهدة القوات الروسية، ما من شأنه أن يضاعف من تعقيدات العلاقات الروسية - الأميركية، خصوصاً في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا.
5- لا خلاف على أنّ إيران من بين أكبر الخاسرين من الاتفاق، ومن وضع أميركا يدها على «ممرّ زينغيزور». ومع أنّ بيان الخارجية الإيرانية رحّب بأيّ تقدّم في عملية السلام بين باكو ويريفان، فهو اعتبر أنّ «التدخّلات الخارجية من أيّ نوع كانت عند الحدود المشتركة، تمثّل قلقاً بالغاً وتؤدّي إلى تداعيات وخيمة العواقب».
6- يشكّل رفع العقوبات العسكرية الأميركية عن آذربيجان، مكافأة لإلهام علييف على دعمه المطلق لإسرائيل في عدوانها على غزة، ودوره في تسهيل مهمّة الطائرات الأميركية في الاعتداء على إيران من الأراضي الآذربيجانية. والجدير ذكره، هنا أيضاً، أنّ محاولات توسيع التعاون، ولا سيّما على صعيد الطاقة بين آذربيجان وسوريا وعبر تركيا، جاءت لتفتح الباب أمام تحالف رباعي يضمّ تركيا وآذربيجان وسوريا، ويمكّن أرمينيا أن تنضمّ إليه لاحقاً.
7- لعلّ أخطر ما في الاتفاق، أنه لا يشير من قريب أو بعيد إلى مطلب الاعتراف بالإبادة الأرمنية، ولا إلى عودة سكان قره باغ الذين هُجّروا منها عام 2023، مع توقّع أن ينصّ اتفاق التطبيع المحتمل بين أرمينيا آذربيجان على التخلّي عن مطلب الاعتراف بالإبادة والتعويض وإعادة الأراضي في الأناضول. ويجعل ذلك من سياسات رئيس وزراء أرمينيا الحالي، ممرّاً خطيراً لتصفية العناوين التقليدية للقضية الأرمنية في العالم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :