لم يُرد زياد أن يكون حدثاً مستقلاً عن هذه المرحلة، «مرحلة ما بعد نصرالله»، بل محوراً أساسياً في فصولها، فلا خروجَ عن مشهد عالمٍ تنهار أعمدته الثقيلة، بل أداء للدور بإتقان.
بات العالم اليوم أكثر ميلاً إلى الصمت المتواطئ، والفَنّ التافه، وحشو الكلام الفارغ، وارتعاد الأوصال، وبيع المواقف وشرائها، وكلها تلفظُ زياداً، «فلا الزمان زمانه، ولا المكان مكانه». لذا، قرر الانسحاب على طريقته، ساخطًا ومتمردًا، لا معتذراً ولا نادماً. أدار ظهره لعالمٍ لم يعد فيه ما يُغنّى، ومضى...
لم تجمعني بزياد مصادفة، ولم أُحط بكل أرشيفه، ولا حفظت عن ظهر قلب كل أقواله وأغانيه، ولا رأيَ فنياً لي في موسيقاه، إلا أن القلب شاء أن يرقص طرباً لها. كما شاهدت مقابلاته في أوقات متأخرة، قضاءً عما في الذمة، لا فرق، فحديثه لا تاريخ انتهاء صلاحية له، ليس لأنه قدّيس عارف، ولا منجّم متنبّئ، بل لأن العالم يدور حوله في دائرة مُفرَغة، ويكرر نفسه. ولكنني كنت دائماً في الخلف، أصفّق من حيث لا يُسمع التصفيق، وكان هو دائماً هنا، كما تكون الطمأنينة، في خندق يجمعنا بالسيد.
لم يكن زياد «أسطورة» وفقاً للتعريف الاستهلاكي للأسطورة، بل كان وعياً متقدماً، صادماً، باحثاً في ما ورائيات الكلام عن المعنى، ومشتبكاً مع من أرادوا للفن أن يكون ترفاً معزولاً عن السياسة والنضال.
كما إنه لم يُحط نفسه بهالة من القداسة، ولم يبنِ له أسطورةً من تضخيم شعبويّ، بل من تراكم مواقف لا تساوم، ومن فنٍّ قاوم البلادة، ورفض أن يكون دمية في مسرح الطوائف والرأسمال والسلطة.
وكانت «سلطة الحسب والنسب» أولَ ما تمرّد عليه ونسفه، إذ لم يُرد أن يوجَدَ لأنه ابن «سفيرة لبنان إلى النجوم»، ولا أن يُرفع لأنه سليل عائلة موسيقية مرموقة، بل خرج من بيت فيروز وعاصي إلى الشوارع والمقاهي الضاجّة بالأسئلة، ليجيب إن ما وجد أجوبة، ويقول «لا» متى ما استدعت المواقف لاءاتها، وليغيّر شيئاً قبل أن تغيّره الأشياء. خرج ليكون حيث يجب له أن يكون.
لم يكن «أسطورةً» وفقاً للتعريف الاستهلاكي للأسطورة
أما حبّي له، فكان لاستثنائيته، لا لأنه مقاوم فحسب، بل لأن الخيارات الأخرى كانت مفروشةً أمام قدميه، برّاقة ومُغرية، ولكنه رفضها، سخر منها واحتقرها. في زمن بات الرهان فيه على بيع الضمائر فصلاً من فصول المهنة، وفيما هبط الفن إلى الدرك الأسفل من الابتذال والانحطاط، بلا ذائقة ولا موقف، حافظ على فرادته. لم يكن ينقصه شيء ليكون جوهرة في تاج الخليج، وليُطوِّع «شيوعيته» لتصبح ديكوراً على مسارح الذهب.
ولكنه بقي هنا، يعيد كتابة بيروت في ذروات جنونها فصولاً على المسارح، ويغنيها مقطوعات في الشوارع. بقي هنا، يدقّ مساميرَ في توابيت الجهل والعنصرية، والعمالة والقتل على الهوية. كما برع في إعادة تعريف الـ «هو الآخر المختلف»، التي تكرّست في عبارة «ما بيشبهونا» على أسس طائفية ومناطقية، موضحاً أن من ينتمي إلى المقاومة وقضايا الناس وهموم الفقراء ويتحدّث لغتهم هو «النحن»، وما دون ذلك هو «الآخر المختلف». وهكذا، كان فنه أقوى من متاريس المدينة وصوته أصدح من شطريها.
في إصراره العنيد على أن يكون كما يشاء، لا كما يُراد له أن يكون، وفي إعطائه لكل شيء معناه، بلغة العامة، وبلهجة أبناء الأرض دون تكلّف أو مواربة، كان فكرةً أكبر من «بيروت الجغرافيا»، فكرةَ أن للفنّ وظيفة، وللمسرح صوتاً، وللموسيقى ضميراً. لذا جمع شطرَي بيروت على المسرح، لم يجمّل وجهها، بل كشف الدماء تحت جلدها. فلم يقدّم صورة مثالية عنها، بل تركها تتلوّى أمامه، عرّاها، سخر منها، ثم احتضنها.
هذا المعنى الذي قدّمه للوجود هو ما يجعل فقدانه فادحاً، ويطرح للعيان أسئلة مؤرقة: أي جيل هذا الذي سينشأ بعد الآن، في زمان لا سيّد حسن فيه يراكم وعيه بخطاباته الثورية، ولا زيادَ فيه يهديه سُبلَ الفنّ المُلتزم والفكر الثوري؟ من سيُورثه القلم والثورة، والأغنية والبندقية، في زمان المحللين التجار، والساسة السماسرة، والفنانين الهابطين؟
ومن سيهديه سُبلَ «أن تكون» في زمان كل شيء فيه يراهن على سلبك معنى الوجود؟ ومن سينحاز إلى قضايا الفقراء والمُضطَهدين؟ ومن سيحيي في نفوسهم «فلسطين»؟
أما «بالنسبة لبكرا شو» في عالمٍ خالٍ منهما؟ ولأننا نخاف أن نعتاد «الانحطاط»، فكل هذه الأسئلة تضع الجميع أمام مسؤوليته تجاه جيل كامل، لم يجد إلا التفاهة والانحطاط أمامه. لذا، لا بد من إعادة تذكيره برموزه عند كل محطة، وإعادة إحيائها والتمسك بها واقتفاء أثرها عند كل درب، وتكريس الفن أداة للمقاومة، لنحافظ على أصالتنا في عالم يحاول سلبنا كل يوم تراثنا، وقتل هويتنا.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :