واشنطن وسوريا... لحظة صدق نادرة

واشنطن وسوريا... لحظة صدق نادرة

 

Telegram

 

منذ عقود والعلاقات السورية–الأميركية تتأرجح بين العداء والبرود، مروراً بمحطات من التوتر العلني أو الصمت المريب، وصولاً إلى سنوات طويلة من المقاربات الرمادية. إلا أن ما نشهده اليوم، في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد ووصول أحمد الشرع إلى سدة الحكم، يشير إلى تحول نوعي في الموقف الأميركي لم تألفه السياسة السورية، لا في اللغة ولا في الفعل.
 
ثمانية أشهر مضت على هذا التحول المفصلي في التاريخ السوري، ويمكن القول إن واشنطن باتت أكثر وضوحاً، أقل نفاقاً، وأكثر استعداداً للاعتراف بأخطاء الماضي. لم تعد تتحدث بلغة مزدوجة، ولا تتوارى خلف شعارات "محاربة الإرهاب" لتبرير دعم قوى أمر واقع تحمل أجندات انفصالية، كما فعلت بعد عام 2011، حين فتحت الباب أمام تنامي نفوذ الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، لاحقاً تحت عباءة "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد)، في تجاهل واضح لهواجس السوريين الوطنية.
 
للمرة الأولى، بدا أن واشنطن تستمع. لا تُملي، بل تتحاور. لم يعد حديثها عن "الانتقال السياسي" مجرد تكرار ديبلوماسي مشروط، بل جاء مقروناً بدعم حقيقي للمؤسسات الوطنية السورية، واعتراف مباشر بشرعية القيادة الجديدة. هذا لم يحدث حتى خلال فترات الوئام النسبي بين البلدين، كما في بدايات عهد الأسد الأب أو خلال التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش".
 
ولا يعني هذا التحول بالضرورة انقلاباً جذرياً في السياسة الأميركية أو تخلياً عن مصالحها، لكنه يعكس إدراكاً جديداً بأن استقرار سوريا لا يُبنى على دعم ميليشيات خارج السياق الوطني، ولا على تجاهل الإرادة الشعبية. بل نجد اليوم مقاربة تضع الدولة السورية الجديدة، بمؤسساتها الوليدة، في قلب المعادلة بدلاً من التعامل معها كملف أمني قابل للتأجيل.
 
قد يثير هذا التحول تساؤلات مشروعة: هل هو موقف ظرفي فرضته المتغيرات الإقليمية والدولية؟ أم بداية لعلاقة جديدة قوامها الصراحة والمصالح المتبادلة؟ لا توجد إجابة نهائية، لكن المؤكد أن ثمانية أشهر من الوضوح الأميركي فاقت في مصداقيتها أكثر من خمسة عقود من الغموض والتردد. والرهان اليوم على خطاب صريح، حتى وإن جاء متأخراً، يبقى أفضل من سياسات الالتفاف ودعم المشاريع الانفصالية التي ساهمت في إطالة أمد المأساة السورية.
 
من الإنصاف عند تقييم هذا التحول، استحضار مفارقة السنوات التي تلت 2011، حين رفعت واشنطن شعارات كبيرة عن "دعم تطلعات الشعب السوري"، وتحدثت عن "خطوط حمراء" دون أن تترجم ذلك إلى فعل ملموس. اكتفت بخطابات حماسية وبيانات دعم لفظي للمعارضة السياسية والعسكرية، من دون تقديم دعم نوعي حقيقي.
 
وبينما كانت المعارضة تتعرض للحصار والتهميش من قوى متعارضة المصالح، وجدت واشنطن ضالتها في قوى مسلحة تحمل أجندات انفصالية لا تنتمي للشارع السوري، وتتناقض مع وحدة البلاد. تحت شعار "محاربة الإرهاب"، دعمت واشنطن تمدد "قسد"، التي سرعان ما تجاوزت دورها العسكري لتفرض أمراً واقعاً سياسياً يناقض وحدة سوريا أرضاً وشعباً، ويهدد أمن دول الجوار، وخصوصاً تركيا.
 
ذلك الدعم لم يُضعف فقط المعارضة الوطنية، بل شكل خيانة مزدوجة لمبادئ "الثورة السورية" كما طرحها السوريون، ولخطاب واشنطن نفسه. إذ بدا أن الإدارة الأميركية تفضّل التعامل مع قوى أمر واقع تخدم أهدافها الموضعية، بدل الانخراط الجاد في مشروع وطني جامع يعيد بناء الدولة السورية.
 
واليوم، لا يمكن تجاهل المسؤولية الأميركية عن سنوات التيه التي عاشها السوريون، حين وُضعوا بين نظام قمعي من جهة، وميليشيات انفصالية أو متطرفة من جهة أخرى، في ظل تخلٍّ دولي عن أي دور حقيقي لإنهاء الصراع بمقاربة وطنية شاملة.
 
إلا أن تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين في الشهور الأخيرة تعكس بوضوح تحوّلاً في النبرة والاتجاه. من تأكيد وزير الخارجية على دعم "جهود الاستقرار في سورية الموحّدة ذات السيادة"، إلى حديث مسؤولي البيت الأبيض عن "إعادة النظر في نظام العقوبات بما يراعي الأوضاع الإنسانية" و"ضرورة دعم المرحلة الانتقالية عبر أدوات مرنة"، بدأت واشنطن أخيراً تتخلى عن خطاب الشروط العقيم لصالح لهجة عقلانية تتحدث عن وحدة سوريا وترفض صراحة مشاريع التقسيم.
 
رغم أن هذا التحول لا يعني بالضرورة فتح صفحة بيضاء، فإنه يشير إلى نافذة سياسية جديدة يمكن من خلالها بناء علاقة متوازنة، تستند إلى الاحترام المتبادل، لا إلى الإملاء أو التجاهل. وفي لحظة سياسية بهذا المستوى من الحساسية، تبدو الفرصة سانحة أمام دمشق لإعادة تموضعها الخارجي، ولطرح نفسها شريكاً قابلاً للتفاهم لا خصماً دائماً.
 
لكن هذه الفرصة لن تدوم. فموقف واشنطن، رغم وضوحه النسبي، يظل رهين تقلبات الداخل الأميركي، وتوازنات إقليمية يصعب ضبطها على المدى الطويل. ما الذي قد يحدث بعد؟ هل يبقى هذا الانفتاح؟ أم يعود الخطاب إلى سياسة العصا والتجميد؟ لا أحد يستطيع الجزم.
ولذلك يبقى القول، إن كسب الوقت، والبناء سريعاً على هذه اللحظة النادرة من الصراحة الأميركية، لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية لسوريا الدولة ولسوريا الشعب، قبل أن تُغلق النافذة ويعود المشهد إلى متاهته المعهودة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram