صحيح أنه لا يجب الركون إلى ما يقوله السياسيون في لبنان حول ملفات ذات بعد إقليمي. ذلك أن قدرة الأطراف المحلية كبيرة في تأويل ما يجري من حولنا، وربطها بالخلافات المحلية. وفي ملف المقاومة، لا معنى للاجتهاد المحلي، ما لم تكن واشنطن خلفه.
والحقيقة، أن غالبية ما يقوله أعداء المقاومة، تعكس توجهاً أميركياً فعلياً. لكنّ بعض العقلاء في الداخل، يجنحون نحو البحث في الأمر بطريقة أكثر واقعية.
إنما ما هو مستجدّ، يتعلّق بكون الأميركيين، ليسوا في مزاج جيد، وهم يريدون من الجميع الدخول الآن، في معركة جديدة، عنوانها نزع الشرعية عن سلاح حزب الله.
بهذا المعنى، يعرف الأميركيون، أن مشروع نزع السلاح، مهمة تتجاوز قدرة السلطات اللبنانية، وما تمرين السلاح الفلسطيني، سوى دليل، على مدى استعداد الدولة اللبنانية لأن تلجأ إلى القوة. وهو ما كان الرئيسان جوزيف عون ونبيه بري حذّرا من الرهان عليه، خلال المحادثات مع حاكم مقاطعة رام الله محمود عباس. والكل يذكر، أن الجهات الأمنية والعسكرية المعنيّة بالخطوة، تنفّست الصعداء، عندما أبلغها مندوب عباس، القيادي الفلسطيني عزام الأحمد، عدم الجهوزية للبدء بالمشروع.!
توم باراك، الموفد الأميركي الذي يتولّى مهمة مؤقتة في لبنان تمتدّ حتى مطلع الخريف المقبل، يملك تصوراته الخاصة حول مستقبل لبنان.
وهو شخصياً، يكرّر ما يقوله الأميركيون من أصل لبناني، حول رغبتهم في إنعاش لبنان وتعزيز قوته، لكنّ باراك، ليس غريباً عن أورشليم، وفي الجانب السياسي، قال إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تريد نزع سلاح حزب الله.
لكنه أضاف، أن هناك مهمة أيضاً، تتعلق بالإصلاحات الداخلية، ويبدو أن للموفد الأميركي آراءه في مسائل كثيرة، تبدأ بتقييم بلاده لأداء السلطة الجديدة، وتقييم الفرق العاملة مع الرئيسين عون ونواف سلام، كما لديه رأي مفصّل، حول آلية العمل في المجال المالي والنقدي والإداري، وهو كان كثير الكلام في هذا المجال، خصوصاً أنه «حذّر» من أن يعود لبنان مرة جديدة، ليكون أسير «أصحاب المصارف» في لبنان، متحدّثاً للمرة الأولى عن عقوبات جاهزة!.
اهتمام باراك بالملف الإصلاحي، لا يعني أنه غير مهتمّ بالملف الأساسي المتعلّق بالحرب مع إسرائيل. فهو من جهة، يتولّى مهمة «تثبيت حكم أحمد الشرع» في سوريا، وهو عبّر بوضوح، عن قلق بلاده من أن «الرجل ليس مستقراً كفاية حتى الآن، وأن اللقاء مع ترامب ثم رفع العقوبات عن سوريا، يهدفان إلى منع حكمه من الانهيار، خصوصاً أن الوضع الاقتصادي صعب للغاية».
ثم تبيّن أن باراك «قصد السعودية وتحدّث مع دول خليجية أخرى، من بينها قطر والإمارات، عن سبل توفير دعم سريع لحكومة الشرع، «خشية أن تسقط في الشارع لا عبر انقلاب».
لكنّ باراك، يعرف أيضاً، أنه يجب على الشرع دفع المقابل، وهو مقابل «تريده الولايات المتحدة في توفير ضمانات بأن تلغي سوريا حالة العداء مع إسرائيل، تمهيداً للدخول في مفاوضات تستهدف توقيع اتفاقية سلام»، بحسب ما يقول مطّلع على اتصالات باراك، والذي يضيف: «إن واشنطن، كانت شديدة الوضوح مع الشرع ورفاقه، بأنه يُمنع عليهم إقامة أي علاقة مع إيران أو حزب الله».
وهي تعليمات جاءت «على خلفية ما تسرّب عن نصائح تركية – قطرية إلى الشرع، بضرورة الانفتاح على إيران، وفتح قنوات اتصال مع حزب الله في لبنان».
يريد أعداء المقاومة من الحكومة نزع الشرعية عن المقاومة، تمهيداً لحروب إضافية تستهدف القضاء على حزب الله
وإذا كان اللبنانيون منشغلين في متابعة الطلبات الأميركية المتكررة بشأن سلاح المقاومة، فهم يقيسون الأمر من زاوية أن واشنطن هي صاحبة القرار، وأن إسرائيل صاحبة اليد العليا، وبالتالي، على لبنان تقديم التنازلات التي تجنّبه غضب واشنطن وتل أبيب.
والمشكلة في عقل هذه المجموعة، ليست في الخضوع لما تريده أميركا وإسرائيل، بل في كونها جهات لا تريد قراءة الوقائع بعيداً عن القراءة الأميركية.
المسألة هنا، تتصل في هذه اللحظة، بكيفية قراءة نتائج الجولة الأخيرة من المواجهة العسكرية مع إيران. ويبدو واضحاً، أن في واشنطن وتل أبيب، من يريد تكريس صورة انتصار كبيرة، تستوجب حصاداً سياسياً في المنطقة.
وإذا كان الأميركيون لا يصرّحون كفاية بما يفكرون، فإن صغارهم في لبنان يجيدون ترجمة الأفكار. وهو ما يقوله الفريق السياسي الذي يريد أن تعقد الحكومة جلسات مفتوحة لمناقشة ملف سلاح المقاومة الآن.
وهؤلاء، يعتبرون، أن الحرب الأخيرة على لبنان أضعفت حزب الله وبالتالي، لم يعد هناك من داعٍ للخوف منه، وهم أنفسهم، يعتبرون أن الحرب الأخيرة على إيران، أضعفت إيران، وبالتالي، فإن حزب الله بات أكثر ضعفاً من السابق. ويضيفون على ذلك، أن حزب الله خسر بين جولتي الحرب، ساحة استراتيجية، هي سوريا.
وبمعزل عن صحة الوقائع من عدمها، لأن آليات قياس النصر والهزيمة تحتاج إلى حكم مستقلّ، فإن الفريق المعادي للمقاومة في لبنان، يوافق إسرائيل، على أن اللحظة الراهنة، مناسبة جداً لطرح الملف، وأنه لا يمكن لأحد معاندة هذا التوجّه. ولذلك، هم يهجمون على جعل الملف عنواناً رئيسياً على جدول أعمال السلطة، وليس على جدول أعمال الطبقة السياسية.
بالنسبة إلى الجانبين الأميركي والإسرائيلي، فإن الصورة تبدو مختلفة، ولو قليلاً. بمعنى، أن واشنطن وتل أبيب تفترضان أنهما ربحتا كل الجولات، من حرب الخريف ضد حزب الله إلى إسقاط النظام في سوريا إلى العدوان الأخير على إيران. وهما أصلا، يفكران الآن، في كيفية استثمار ذلك من خلال صيغة حل في قطاع غزة، تقوم على فكرة استسلام حماس.
لكنّ وقائع الميدان العسكري والميدان الشعبي والموقف السياسي، لا يشير كل ذلك إلى أن حماس في وارد الاستسلام. وبالمنطق نفسه، يفكر هؤلاء في التوجه إلى لبنان، ولأنهم يعرفون، بأن نزع السلاح غير ممكن، فهم لا يريدون دفع القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية إلى مغامرة تقود إلى حرب أهلية، لكنهم يريدون الحصول على نتيجة أولى، تكون من خلال دفع الحكومة اللبنانية إلى اتخاذ قرارات، ولو ظلّت نظرية، لكنها قرارات تنزع الشرعية الدستورية والسياسية والرسمية عن سلاح المقاومة، وتحوّله إلى سلاح عصابات.
وعندها سوف تشنّ إسرائيل المزيد من الحروب، كما ستفعل أميركا ذلك ولو بأساليب مختلفة، وسوف يقولون لنا: نحن نعالج مشكلة مجموعة قرّرت حكومتكم أنها عبارة عن شبكة إجرام مسلّحة خارجة عن القانون.
ما يجري فعلياً من مناقشات اليوم في لبنان، كان يمكن وصفه بـ«المزحة السمجة»، لولا أنه يوجد بيننا مجانين، يزيد جنونهم كل يوم، وهم يراقبون مجانين العصر في أميركا وإسرائيل... لكنّ هؤلاء، يبدو أنهم غير آبهين، لأن يتم إدخال لبنان في حرب أهلية تدمّر كل شيء، إلا إذا كانوا يراهنون على تدخّل إسرائيلي – أميركي – سوري لأجل القضاء على حزب الله!
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :