وزير الطاقة جو الصدّي ليس شخصية سياسية، بل يصنّف «تكنوقراط» سمّته القوات اللبنانية لهذا الموقع. لديه من المعرفة العلمية ما يكفي لإدراك حجم المشكلة في قطاع الطاقة.
وهو يدرك حجم التدخّلات السياسية والزبائنية في هذا القطاع. رغم ذلك، يقدّم خطّته عبر برامج تلفزيونية وليس في الحكومة.
ما بدر منه حتى الآن، أن إدارته لهذا الملف لا تفصل بين مرحلة إدارة الأزمة، وبين مرحلة ما بعدها. لذا، يقول خلافاً لما يفعل.
ففيما أعلن أن زيادة التغذية بالتيار الكهربائي ليست ضمن أولوياته، خلافاً لمسألة الاستثمار في زيادة القدرة الإنتاجية التي تتصدّر هذه الأولويات، يذهب إلى قطر مع رئيس الحكومة نواف سلام لطلب كميات مجانية من الفيول مخصصة للاستخدام في المعامل الحالية!
وإلى جانب ذلك، فإن الإستراتيجية الواضحة في هذا المجال، هي البيع للقطاع الخاص بأبخس ثمن ممكن، علماً أن الهيكل المالي للإنتاج والتشغيل ليس مضمون النتائج.
خصخصة بلا زيادة للتغذية
يبني الصدّي رؤيته للكهرباء في لبنان على معطيات معروفة؛ تبلغ القدرة الإنتاجية لمعامل الكهرباء القائمة حالياً 1200 ميغاوات. في المقابل هناك طلب على الكهرباء يساوي ثلاثة أضعاف الإنتاج (يصل الطلب الفعلي إلى 3800 ميغاوات). لذا، إن توافر التمويل لاستيراد الوقود اللازم لتشغيل المعامل بوضعها الحالي يمكن أن تصل التغذية بالتيار الكهربائي إلى ما بين 8 ساعات و10 ساعات كحدّ أقصى.
القطاع الخاص أول من هرب من تلزيم معمل دير عمار 2
ويضيف: «أنا لم آتِ إلى هذه الوزارة للترقيع أو زيادة تغذية الكهرباء ساعة أو ساعتين، بل هدفي وضع القطاع على السكّة والعمل على حلول مستدامة»، مؤكداً أنه اتفق مع وزير المال على رفض «مراكمة الديون على لبنان»، وأبرزها الديون للعراق والتي تبلغ 1.2 مليار دولار «التي يتوجب علينا سدادها»، إذ إن 80% من الوقود المستعمل لتشغيل المعامل هو 80% عراقي.
وسيقدّم الصدّي جهده وخبراته على ثلاثة محاور:
- إنشاء معامل حديثة على الغاز لتوفير المال وزيادة القدرة على تلبية الطلب. «كانت الدولة تملك الأموال وفي إمكانها القيام بذلك. أما اليوم، فلا قدرة لديها، لذا سنلجأ إلى إشراك القطاع الخاص نظام BOT/ PPI. وأسعى عبر زياراتي الدولية إلى تأمين التمويل والضمانات اللازمة لإقامة معمل حديث على الغاز، أقله في المرحلة الأولى».
- تحسين الجباية التي تبلغ اليوم 60%. أما الـ 40% الباقية، فهي: 10% هدر فني، و30% هدر غير فني أو سرقة. إذا كنا نريد جذب مستثمرين، لا يمكن أن تستمر نسبة السرقة في القطاع 30%.
- تعزيز الاعتماد على الطاقة الشمسية. وهنا تكمن أهمية الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء...
التسوّل من قطر
الصدّي ألغى فكرة زيادة التغذية من برنامج عمله، وهو يتفق مع وزير المال ياسين جابر على أن الدولة ليس في مقدورها الإنفاق على الكهرباء، ما يعني اللجوء إلى القطاع الخاص الذي لا يستثمر إلا مع ضمانات بالربح والتي ستقدّمها له الدولة عبر تقليص الهدر الفني وغير الفني إلى مستويات محدودة (5% للهدر الفني و10% للهدر غير الفني).
رغم ذلك، سافر الصدّي أخيراً مع رئيس الحكومة نواف سلام إلى قطر في إطار من أجل «تسوّل» كميات من الفيول المجانية لتشغيل المعامل.
إلى جانب ذلك كان هناك نقاش في مسألة استثمار القطريين في بناء محطات للغاز المسال، علماً بن هذا النقاش مع القطريين تحديداً لم يتوقف منذ سنوات.
المشكلة أنه في لحظة شعبوية، انتقل الصدّي، سريعاً، برعاية نواف سلام، من «وضع القطاع على السكّة»، إلى «استبدال الفيول العراقي المؤجّل الدفع بكميات مجانية من قطر».
هذا الأمر يظهر أن لا أحدَ يمكنه إدارة الظهر لمرحلة إدارة الأزمة. فالفيول اللازم لتشغيل المعامل وزيادة التغذية هو أهمّ بالنسبة إلى القوى السياسية من «وضع القطاع على السكّة»، وهذا الأمر ينطبق على القوات اللبنانية التي تدّعي أنها ستقدّم أداءً لا يُقاس بما قدّمه التيار الوطني الحرّ في وزارة الطاقة.
أما بالنسبة إلى خطّة زيادة القدرة الإنتاجية، فالأمور واضحة للعيان؛ المعامل الحالية تقدّم بأقصى طاقتها نحو 10 ساعات كهرباء، ولا يمكن زيادة التغذية عن هذا المستوى إلا باستثمارات إضافية.
جابر والصدي وسلام وغيرهم كثيرون في رئاسة الجمهورية وفي عين التينة وفي التيار الوطني الحرّ، يرون أن الخصخصة من باب الشراكة مع القطاع الخاص، هي الحلّ، بذريعة أن الدولة ليس لديها الأموال للإنفاق الاستثماري. وهذا يعيد النقاش إلى مسألتين: هل صحيح أن الدولة لا تملك الأموال؟ هل تغطّي الخصخصة الكلفة التشغيلية؟
لماذا ألغي الإنفاق الاستثماري؟
لا يستطيع وزير المال ياسين جابر أن ينكر وجود 2.7 مليار دولار «فريش» متراكمة في حساب الخزينة لدى مصرف لبنان.
ويُستدل على ذلك بما ورد في النشرة الدورية الصادرة عن البنك الدولي أخيراً: «ارتفعت ودائع القطاع العام (لدى مصرف لبنان) وهي تشمل ودائع المؤسسات العامة ولا تقتصر على حساب الخزينة لدى مصرف لبنان، بقيمة 1874 مليون دولار بين كانون الثاني 2024 وكانون الأول من السنة نفسها».
أي إنه في 12 شهراً فقط زاد هذا الحساب الذي تشكّل الخزينة جزءاً أساسياً منها، بنحو 1.8 مليار دولار.
وبحسب الميزانية النصف الشهرية الصادرة عن مصرف لبنان، فإنه تراكم في حساب القطاع العام نحو 7 مليارات دولار. وهناك تفسير بأن بعض هذه المبالغ هي «لولارات» تُحتسب دفترياً بسعر 89500 ليرة بينما هي في قيمتها الفعلية 15 ألف ليرة، وهو ما يجعل المبلغ المتراكم أقل.
وبمعزل عن هذا النقاش، فإن حساب الخزينة هو جزء أساسي من حساب القطاع العام، وقد أُبلغ بعض الوزراء من مسؤولين في صندوق النقد الدولي ومن مسؤولين في مصرف لبنان أن ما تراكم للخزينة يبلغ 2.7 مليار دولار «فريش» قابلة للإنفاق مباشرة.
الواقع، أن جابر والصدّي ومعهما رئيس الحكومة وعدداً كبيراً من «وزراء الخصخصة» يرفضون أن تنفق الدولة أي مبلغ على إعادة الإعمار، وأي مبلغ على الاستثمار في الكهرباء وأي مبلغ على الاستثمار في قطاع الاتصالات، علماً أن البنك الدولي يقول أيضاً: «نفقات الدولة في 2024 هي المساهم الإيجابي الوحيد في الاقتصاد اللبناني». فهذا يعني أن إنفاق الحكومة مهمّ للنمو الاقتصادي، لا سيما إذا كان إنفاقاً استثمارياً.
حين فرّ القطاع الخاص
منح «أولوية مطلقة» للقطاع الخاص إلى جانب التذرّع بعدم توافر الأموال، لا يؤدي فحسب إلى «قطع الأمل» بإدارة الأزمة وزيادة التغذية بالتيار الكهربائي، بل يضمن أيضاً حدوث أزمات في المستقبل. إذ يجب ألا ننسى أن القطاع الخاص أول من فرّ هارباً من تلزيم معمل دير عمار 2 بقدرة إنتاجية تبلغ 500 ميغاوات.
فقد أدّت الخلافات السياسية بشأن هذا العقد إلى حرفه من صيغة «أشغال لمصلحة الدولة» التزمت بها شركة يونانية اسمها «J&P Avax» بموجب مناقصة عمومية قيمتها 360.9 مليون يورو، إلى عقد «شراء طاقة طويل الأمد» يسمى PPA لمصلحة شركة لبنانية لمدّة 20 سنة قابلة للتمديد 5 سنوات.
وبحسب الصيغة الجديدة اتفق على أن تبيع الشركة التيار الكهربائي للدولة بسعر 2.95 سنتاً للكيلوات ساعة الواحد عدا عن سعر الوقود المستعمل في الإنتاج... وعندما جاءت الأزمة، هرب الشركاء من الالتزام وعلى رأسهم الشركة اليونانية، الأخوان تيدي وريمون رحمة، رجل الأعمال الأردني (حامل الجنسية اللبنانية) علاء الخواجة، غسان غندور.
أداء القطاع الخاص ليس مشرّفاً ولا شجاعاً، بل يسعى هذا القطاع إلى ضمانات على الاستثمار. يريد ضمانة للأرباح من دون أي مخاطرة. لذا، يمكن للدولة، لو أرادت العمل بعيداً من أفكار الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص، رسم خطّة على خمس سنوات لردم فجوة القدرة الإنتاجية، تتضمن بناء معمل واحد الآن بقدرة 500 ميغاوات. خطّة كهذه أكثر جدوى من فكّ الطلاسم بين القوات والتيار.
وفي هذا الوقت يمكن تمويل شراء الفيول من الدورة المالية لمؤسسة كهرباء لبنان التي تبلغ حالياً 500 مليون دولار مصدرها الجباية.
كل هراء آخر عن التسوّل هو في غير محلّه. يمكن شراء الفيول من قطر أو من العراق أو من دول عدّة تريد مساعدة لبنان.
وفي النتيجة لا يمكن إعطاء «الأولوية المطلقة» للاستثمارات مع القطاع الخاص، على إدارة الأزمة وزيادة التيار الكهربائي الآن.
كلام الصدّي عن وضع القطاع على السكّة، مهما تكن هذه الـ«سكّة»، يجب ألا يلغي زيادة التغذية بالتيار والاستفادة من القدرات الإنتاجية للمعامل القائمة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :