“من المسافة صفر”.. حيث يسقط الجندي المدجج أمام الفدائي الأعزل!
في زحام دخان الحرب، وبين الأنقاض وشظايا الاشتباك المفتوح، يتردد على ألسنة الفلسطينيين ومقاتلي المقاومة في غزة مصطلحٌ بات يشكّل عنوانًا لتكتيك قتالي بالغ الجرأة والخطورة، “من المسافة صفر”.
هذا مصطلح لم يعد مجرد تعبير مجازي، بل تحوّل إلى أسلوب ميداني عسكري متكرر في المواجهات الأخيرة، يعتمد على الاقتراب الحرفي من العدو، حتى التلامس أحيانًا، لتنفيذ هجمات مباشرة ضد الجنود والآليات الإسرائيلية، غالبًا وسط الأحياء المدمرة أو عبر الأنفاق.
وفي ظل غياب التوازن في التسليح والتكنولوجيا، تبرز “المسافة صفر” كواحدة من أهم أدوات المقاومة التي تُبقي الاحتلال مكشوفًا وضعيفًا في ميدان الاشتباك القريب، حيث لا تحسم المعارك الطائرات ولا الدبابات، بل الرجال الذين لا يتراجعون.
“المسافة صفر” ليست مجرد تكتيك عسكري يتبعه المقاومون الفلسطينيون في مواجهتهم مع قوات الاحتلال، بل هي عقيدة قتالية ترسّخت منذ بدايات العمل المقاوم في غزة، وتحوّلت إلى نهج دائم يتوارثه جيل بعد جيل، منذ أن خطّ الشهيد القائد عماد عقل أول حروفها بدمه.
وقد أعاد هذا المفهوم للواجهة مجددًا مشهد العملية الأخيرة في خان يونس، حين اقترب أحد المقاومين من ناقلة جند إسرائيلية، وزرع عبوة “شواظ” من مسافة صفر، ومجسدًا بذلك هذه العقيدة التي تحوّلت إلى رمز روحي وعسكري للمقاومة في غزة.
المصطلح الذي أربك الجيش
يشير المصطلح إلى تنفيذ عمليات قتالية مباشرة على بعد أقل من 50 مترًا من العدو، وغالبًا ما يُستخدم عند الحديث عن كمائن داخل الأحياء السكنية، تفجير آليات من الخلف، أو الاشتباك بالأسلحة الخفيفة من نقطة الصفر.
يتطلب هذا النوع من العمليات شجاعة ميدانية عالية، تخطيطًا استخباراتيًا دقيقًا، وإتقانًا لحرب الأنفاق والمباغتة، وهو ما باتت تتقنه فصائل المقاومة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة “حماس”.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، برزت عشرات المشاهد المصوّرة التي توثق تنفيذ مقاومين فلسطينيين هجمات مباغتة ضد قوات راجلة ودبابات إسرائيلية من مسافات قريبة جدًا.
وكانت المقاومة وثقت عملياتها المصورة المصحوبة برمزية “المثلث الأحمر”، كأسلوب قتالي غير معهود أثبتت فيه دومًا قدرتها على التكيف بابتداع أساليب قتالية تظهر روحًا عالية على التضحية من “المسافة صفر”، حيث يلتحم المقاتل الفلسطيني بالجنود المتحصّنين خلف أطنان من الصفائح الحديدية لدبابة “الميركافا” المزودة بالكثير من المعدّات والتقنيات القتالية.
وما يميز عمليات “المسافة صفر” أنها تدمج بين الفعل العسكري والتوثيق الإعلامي، إذ باتت الكاميرات جزءًا لا يتجزأ من خطة التنفيذ، في محاولة لتوثيق الشجاعة والانتصار المعنوي.
والمشاهد المصوّرة التي نشرتها القسام وسرايا القدس لاحقًا، أظهرت بوضوح كيف تُدار هذه العمليات بدقة عالية، بدءًا من التخفي والكمين، مرورًا بالاشتباك، وانتهاءً بالانسحاب السريع تحت غطاء الدخان أو الأنفاق.
كما أن هذه العمليات قلبت ميزان الاشتباك، فرغم تفوق “إسرائيل” التكنولوجي والتسليحي، فإن مواجهات “المسافة صفر” تسلبها أهم نقاط قوتها التي تتمثل بالتفوق الجوي، الاستخبارات اللحظية، والأسلحة بعيدة المدى.
وفي أكثر من مناسبة، اعترف ضباط إسرائيليون بأن الجيش يواجه صعوبات غير مسبوقة في القتال داخل غزة، خصوصًا عند “التحام العدو بالمقاتلين”، ما يقيّد حركة القوات ويُدخلها في دوامة من الرعب والشك والخسائر.
صورة فدائية إنسانية
الدكتور محمود بركة، الباحث في الإعلام السياسي، يصف مصطلح “المسافة صفر” بأنه ليس مجرد توصيف عسكري، بل بنية رمزية وفكرية تختزل مسارًا طويلًا من الفهم والتأهيل الذاتي لدى المقاتل الفلسطيني، حتى يصل إلى لحظة المواجهة الفاصلة.
ويرى بركة، في مقال نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان “سطر المسافة، صفر في غزة”، أن المقاومة وضعت الجسد في مركز الصفر، وعلى رأسه تمامًا، ليصوغ بذلك خطابًا قيميًا جديدًا يعكس قوة الإرادة أمام فيزياء آلة الحرب الإسرائيلية.
وأكد على أن “المسافة صفر” ليست فقط لحظة التحام ناري، بل صورة فدائية إنسانية، حيث تتلاقى الأيادي المجردة من السلاح إلا من الإرادة مع منظومات تسليحية متطورة مدعومة بإمبراطوريات غربية ونظم عربية متواطئة، في ظل صمت رسمي فلسطيني يفاقم عزلة غزة.
وفي قراءة تحليلية لما بعد الكاميرا، أشار بركة إلى أن “صفر المسافة” أطاح بمهزلة المفاوضات المخجلة التي طالما روّجت لحلول سياسية لا تفعل شيئًا سوى تمكين الاحتلال وتوفير الوقت له لتكريس الاستيطان وقهر الفلسطينيين.
وقال إن هذا الالتحام المقاوم عند النقطة صفر “أربك الرواية الصهيونية”، وواجه محاولات الاحتلال لاحتكار السرد والسيطرة على المعنى السياسي والتاريخي لفلسطين، من خلال مقاومة متجددة لم تقتصر على غزة، بل تتقاطع مع معاناة الفلسطينيين في القدس والضفة و1948 والسجون والشتات.
وأضاف أن “المسافة صفر” طوت صفحة الذل السياسي، وأعادت الاعتبار لفكرة الفدائي الثوري الذي يلاحق العدو من خلف الجدار، ويستعيد زمام المبادرة بعمليات نوعية بلغت ذروتها في عملية طوفان الأقصى، التي وصفها بأنها “تحوّل جذري يعيد رسم الجغرافيا السياسية في فلسطين، ويطرح سؤالًا مفتوحًا حول حاضر الصراع ومستقبله”.
وأكد الدكتور محمود بركة أن المسافة صفر، وإن كانت جغرافية قصيرة، فهي مسافة كبرى من حيث المعنى والرمز، إذ تُعيد رسم خريطة التحرير والعودة، وتجعل الانتصار قاب قوسين من لحظة لا تصنعها التكنولوجيا، بل إرادة الإنسان الفلسطيني وحلمه بالحرية.
في غزة تُلغى قوانين المسافة
ومن جانبه، قال الكاتب المصري يوسف الداموكي إن قطاع غزة أصبح المكان الوحيد في العالم الذي تُكسر فيه قوانين الفيزياء وتُلغى فيه مفاهيم المسافة والأمن، ليحل محلها قانون جديد، تصوغه المقاومة الفلسطينية بدمها وبوصلتها.
واعتبر الداموكي أن المسافة، كما تُعرّف رياضيًا ببُعد بين نقطتين، “تتلاشى” في غزة، حيث لا يعود للقرب أو البعد معنى، بل تتساوى الأرقام، ويتحوّل القياس إلى “صفر كبير” يختزل الموت والثأر والانفجار في لحظة واحدة، على وقع تكبيرات المقاتلين.
وأضاف الكاتب: “لكل قاعدة استثناء، والقاعدة هنا غزة، واستثناؤها العالم، لأنها بمفردها أكبر منه مجتمعًا. لا يبث قربها خوفًا، ولا يبث بعدها أمنًا”.
وفي توصيف رمزي لعمليات المقاومة الفلسطينية، شبّه الكاتب لحظة إطلاق القذيفة بـ”المعلم المغوار” الذي يعلن اكتمال الدرس، وتبدأ معه معادلة جديدة تصوغ تعريفًا مختلفًا للمكان والزمن والمعنى.
وفي فقرة أثارت تفاعلًا واسعًا على المنصات، كتب الداموكي: “في جامعة غزة – وأقصد بها غزة كلها – يتعلّم الطلاب عن بُعد، أولئك الذين يشاهدون الحصص عبر الأثير، كيف تصنع تعريفات جديدة للمفاهيم، وتُعيد اكتشاف الفيزياء والكيمياء والطب والحساب”.
وشدد الكاتب بالقول إن غزة أعادت تشكيل العلوم من جديد، بينما أسقطت من مناهجها ما وصفه بـ”مادة القانون الدولي” التي يرى أنها لم تعد تصلح كأداة نضال في وجه المجازر، لتُستبدل بـ”منهج الكفاح المسلح” كخيار فرضته المعادلة على الأرض.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي