نحن قلة، نواجه كلّ تكنولوجيا العالم، ونواجه عمليّات خاصة، ونواجه قدرات معلوماتيّة هائلة جدًا موجودة لدى العدو، ومع ذلك، العدو مهزوم».
«كيف نقاتل؟ هذا هو البحث الدائم والمعيار ومفتاح النصر…». (الحاج عبد القادر)
في هذا العالم المادي، لا تظهر حقيقة النفس إلا حين تُوضع أمام مرآة الفكر الصافي، وكأن الذات، وهي تتلمّس الطريق من خلال نور يأتيها من بعيد، تائهة بين الأفكار والمعاني، وتبحث عن نفسها، عن الحقيقة، عن الحرية، عن العزة والكرامة، عن السعادة، تحتاج إلى مجاهدة عدوّ، وفكر حادّ كالشفرة، لتختبر هشاشتها أو صلابتها. هنا بالذات، عند تباين الذات وفلسفة الحرب، التقيتُ بابراهيم عقيل.
لم تكن المسألة مجرد انجذابٍ إلى القائد العظيم بقدر ما كانت محاولة للتعرف على شخصية هذا القائد.
كيف يُفكر وهو بين عدو داخلي وعدو خارجي؟ كيف يبني استراتيجيات الاشتباك في مقابل كلا العدوين، وكيف يرسم خريطة الرجوع إلى عالم النور؟ وهو يئنّ من ألم الفراق، ويقول أنا الغريب في هذا العالم! وكيف يحقّق النصر أمام عدوّ غاشم ومتغطرس؟
ظهر إبراهيم عقيل في ساحات القتال في أواخر السبعينات من القرن العشرين، وهو ما زال في مقتبل العمر، في الوقت كان لبنان منغمسًا في فوضى سياسية وصراعات داخلية وخارجية.
شارك في بناء الهيكل التنظيمي في حركة أمل فضلًا عن دوره العسكري المتميّز في حرب العصابات التي خاضتها حركة أمل في تلك المرحلة.
في بداية عام 1982، أعلن التعبئة العامة للمستضعفين تلبية لنداء الإمام الخميني قدس الله سره الشريف، وأسّس لمشروع عسكري مقاوم للكيان الإسرائيلي، وكانت هذه المرحلة بدايات إرهاصات المقاومة الإسلامية التي أُعلن عن تسميتها رسميًا في ما بعد.
وقد تميّز ابراهيم عقيل بالعزم، والتصميم، والإرادة، والثبات، والبصيرة الثاقبة، وبالقوة والشجاعة والبأس، كان قلبه كالأسد في مواجهة الأعداء، لا يهاب الموت ولا يخشى الأهوال.
وكان رمزًا للإبداع العسكري والقيادة الاستراتيجية. فمنذ تشرفه بخدمة الجبهة في «وحدة نصر» وتسلمه مسؤولية الدفاع عن جنوب في منتصف التسعينات، أحدث انقلابًا في مفهوم القيادة العسكرية، واستطاع أن يتفوّق على العدو الإسرائيلي.
وأبدع في الاستراتيجيا والتكتيك والسرعة والمرونة والتخفي، وخداع العدو، وخاصّة في الـ«أين».
وهذه الاستراتيجيات شملت أيضًا الحرب النفسية، حيث كان يدرك تمامًا كيف يمكن هزيمة العدو من خلال تدمير معنوياته قبل أن يواجهه في ساحة المعركة.
من خلال استراتيجياته وتكتيكاته المبتكرة، استطاع ابراهيم عقيل أن يقهر الجيش الإسرائيلي، ويخرجه من أرضنا المقدسة.
ابراهيم عقيل، الذي اعتاد النظر إلى مفهوم النصر كثمرة للإعداد الصحيح والفهم الصحيح، أسس لنظرةٍ تجديديةٍ أعاد فيها دراسة المفاهيم العسكرية بما يُناسب تفكير المقاومة الإسلامية ومناهجها وعقائدها القتالية، وأساليبها المختلفة مع التحدّيات والمتغيرّات.
ووضع إطاراً عاماً لمناهج العمل وأساليب التفكير التي تنامت تدريجيًا عبر سنوات تطوّر المقاومة.
أسّس لفكرٍ عسكري حديث، وركّز على مبادئ عسكرية لم تغيّر فقط طريقة خوض الحروب في مقاومة إسرائيل بل ولّدت مفاهيم قتالية حديثة، في القتال المشترك، وفي حرب العصابات والحرب اللامتماثلة، والوضعيات القتالية الأكثر ملاءمة وغيرها… ناهيك عن مفهوم الاشتباك الذي أحدث ثورة في مفاهيم القتال، وترك إرثًا كاملًا من التفكير العسكري.
عُرف بقدرته الفائقة على التخطيط المسبق والتحليل الاستراتيجي في المعارك، إذ أدرك أن التحرك السريع والمناورة الذكية هما المفتاح لتحقيق النصر.
وكان دائمًا يسعى إلى إيجاد حلول مبتكرة لمواجهة التحديات والمتغيرات.
ولم تقتصر إبداعاته العسكرية على التكتيك فقط، بل امتدّت لتشمل التنظيم الداخلي، فعمل على تأسيس هيكليات أركانيّة وعملياتيّة في المقاومة الإسلامية، وإجراءَ تغييرٍ بنيويٍّ في مفهوم بناء القوّات واستخدامها، بما يتناسب مع بناء المجموعة، وبناء الفصيل، وبناء البقعة، وبناء الفرد المقاتل، وبناء أي نوع من التشكيلات بما يتناسب تكتيكيًا مع القتال، مما جعل القوات في المقاومة أكثر كفاءة ومرونة.
لم يكن ابراهيم عقيل مجرد قائد عسكري، بل كان ذا نزعة فلسفية وعرفانيّة عميقة، يُمليها عليه وعيٌ حادٌ بالزمن والتاريخ. بالماضي والحاضر.
وهو، حين تحدّث عن «الحرب»، لم يكن ساردًا لوقائع ونظريات بقدر ما كان يُشيد صرحًا فكريًا مفعمًا بالأسئلة الوجوديّة الكبرى: من أين وفي أين وإلى أين؟ من أنت ومن عدوك؟ …
هذه النزعة الفلسفية جعلته يرتبط بالبحث عن الحقيقة، حيث كانت حاضرة في طريقة تفكيره وأسلوب حياته. إذ كان يبحث عن المعنى الأسمى للحياة، ويسعى للوصول إلى الحقيقة والكمال عبر تجربته الروحية، وكان في حالة بحث مستمر عن القوة الداخلية واليقين الذي يعزز موقفه وحضوره تاركًا أثرًا عظيمًا في هذا العالم. كان يعرف جيدًا كيف يوازن بين الجانب العقلي والروحي في شخصيته.
إذا كان البعد العسكري في شخصية عبد القادر جعل منه قائدًا استراتيجيًا فذًا، فإن البعد الروحي في شخصيّته جعله يتجاوز حدود كونه قائداً عسكرياً.
وقد جعل أعماله القتالية وتنظيراته البنيوية العسكريّة الوسيلة للوصول إلى الهدف الأسمى وهو الله جل جلاله، سواء كان ذلك في تغيير وجه الصراع مع العدو الإسرائيلي أو في جهاده لنفسه.
وأخيرًا، أصبح ابراهيم عقيل واحدًا من أكثر الشخصيات التي يمكن أن تكون محطًا للتأمل في تاريخنا المعاصر، من خلال براعته العسكرية ورؤيته العميقة للمستقبل، ومن خلال بُعده المعنوي، مما جعل منه قائدًا استثنائيًا لا يقتصر تأثيره على ساحات القتال فحسب، بل يمتد إلى أبعاد روحية تفتح أبوابًا غيبيّة للكثيرين، لأولئك الذين يطلبون النور في ظلام المادة.
لقد قدمت لنا أفكاره أداة لا لفهم الحرب فحسب، بل لفهم ذواتنا وقدراتنا، وللثبات وعدم اليأس والتخاذل، ولأن تكون لدينا رؤية استراتيجية للأمور، ويقين راسخ بأن النصر حليفنا مهما تعاظمت قدرات أعدائنا، وأنّ كل فرد يحمل داخله ساحة اشتباك، وسؤالًا استراتيجيًا لم يُجب عليه بعد: من أنا ومن عدوي؟
ومن يعرف الإجابة فهو المنتصر.