عبد العزيز بدر عبد الله القطان
ظلّ الملف النووي في الشرق الأوسط أحد أكثر القضايا تعقيدًا، متأرجحًا بين محاولات التفاهم والتوترات المتصاعدة، وبينما سعت القوى الدولية إلى فرض استقرار يضمن التوازن ويحول دون انزلاق المنطقة إلى سباق تسلح غير محسوب، برزت بعض الأطراف كلاعبين بارعين في إعادة رسم قواعد اللعبة وفق حساباتهم الخاصة، مستخدمين استراتيجيات تفاوضية معقدة تارة، وأساليب ميدانية غير مألوفة تارة أخرى.
في ظل هذا المشهد، باتت بعض الاتفاقيات أشبه بمراحل مؤقتة في لعبة طويلة الأمد، حيث تتشابك المصالح، وتتأجل الحلول، ويبقى الأمن الإقليمي مرهونًا بمعادلات تتغير باستمرار وفق رؤية من يجيد المراوغة أكثر من الالتزام.
بالتالي، إن الإدارة الأميركية الجديدة لم تبد حتى الآن أي اهتمام باستعادة الاتفاق النووي الإيراني، وإن الغرب ككل يعارض بشدة تطبيع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنه يفضل التوصل إلى اتفاق بدلاً من مهاجمة إيران لمنعها من امتلاك أسلحة نووية، وتبع ذلك تقارير إعلامية تفيد بأن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة اتفقتا على الخطوات التي سيتم اتخاذها إذا رفضت الجمهورية الإسلامية التوقيع على الاتفاق.
الغرب يعارض تطبيع العلاقات مع إيران
لا يزال مستقبل الاتفاق النووي غير محدد. وهذا مرتبط، في المقام الأول، بموقف الولايات المتحدة.
أما فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني، فبرأيي لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، خاصة أن الدول الغربية لا تزال تعارض بشدة تطبيع العلاقات مع إيران في هذا المجال، ولا تظهر أي نهج بناء، والآن يمكننا أن نرى ديناميكية الموقف الأميركي تجاه إيران، والذي كما نعلم أصبح متشدداً بشكل ملحوظ، وبالتالي من الصعب التنبؤ بأي شيء حول آفاق هذا الجانب على وجه الخصوص.
جدير بالذكر أنه تم توقيع الاتفاق النووي في عام 2015 من قبل إيران وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وألمانيا، واقترحت رفع العقوبات المفروضة على إيران مقابل قيام طهران بالحد من برنامجها النووي، لكن في عام 2018، انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من جانب واحد من الاتفاق النووي، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية على طهران، وردًا على ذلك، بدأت إيران الانسحاب التدريجي من عدد من التزاماتها بموجب الاتفاق:
علقت إيران مبيعاتها الزائدة من اليورانيوم المخصب والماء الثقيل إلى دول أخرى، وتجاوزت سقف مخزوناتها من اليورانيوم المنخفض التخصيب البالغ 300 كيلوغرام.
وفي الرابع من فبراير/شباط، وقع ترامب على أمر يقضي باستعادة أقصى قدر من الضغط الأمريكي على إيران لمنع الجمهورية الإسلامية من الحصول على أسلحة نووية. وترغب واشنطن، على وجه الخصوص، في تحقيق خفض في صادرات النفط الإيرانية، وفي فبراير/شباط، التقى رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو مع دونالد ترامب في البيت الأبيض، وتوصلت "إسرائيل" والولايات المتحدة إلى "تفاهم كامل" بشأن الملف الإيراني، وذكرت تقارير إعلامية أنه تم الاتفاق على الخطوات التي يجب اتخاذها إذا رفضت إيران التوقيع على الاتفاق النووي، وهو أكثر صرامة بكثير من نسخة 2015.
وفي 10 فبراير/شباط، قال الرئيس الأميركي إن البرنامج النووي لطهران يمكن إيقافه من خلال توجيه ضربات أو توقيع اتفاق، وأضاف الزعيم الأميركي أنه يرغب في التوصل إلى اتفاق مع الجمهورية الإسلامية دون اللجوء إلى الوسائل العسكرية، وفي الوقت نفسه، تظل سياسة العقوبات الغربية إحدى العقبات الرئيسية أمام استعادة الاتفاق. واشنطن ليست في عجلة من أمرها لتخفيف الضغوط على إيران.
ويزيد العامل الصهيوني من إلحاح الوضع الحالي، خاصة وأنه يفكر في ضرب المنشآت النووية الإيرانية هذا العام، ويزعم أنه ينوي صد التقدم الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي من خلال العمل العسكري.
وفي جوهر الأمر، استخدم الرئيس الأمريكي الصيغة السياسية الكلاسيكية للجزرة والعصا في التعامل مع إيران، وفي جوهر الأمر قدم لطهران إنذارا نهائيا: "إما أن توافقوا على صفقة بشروطنا، أو سنعذبكم بعقوبات صارمة مع احتمال كبير لاستخدام القوة".
كما أن الاتفاق النووي أصبح غير ذي صلة مع قيام إيران بتخصيب اليورانيوم إلى مستويات "قريبة من الدرجة العسكرية" وتتحرك بسرعة نحو أن تصبح دولة نووية، خاصة وإن الاتفاق النووي صُمم لأجيال أقدم من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، في حين تمتلك طهران بالفعل أجهزة طرد مركزي يمكنها إنتاج المزيد من الوقود النووي بمعدات أقل.
موقف إيران من المفاوضات مع الولايات المتحدة
طهران ترفض نهج البيت الأبيض. وقال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي جعل من إقامة علاقات متكافئة مع الغرب أولوية، في خطاب متلفز يوم 10 فبراير/شباط: "إذا كانت الولايات المتحدة صادقة في المفاوضات، فلماذا فرضت علينا عقوبات؟". وأشار الزعيم الإيراني إلى أن بلاده "لن تخضع للضغوط الخارجية".
كما يعتقد وزير الخارجية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية عباس عراقجي أنه لا يوجد حاليا أي أساس لإجراء مفاوضات صادقة، وأضاف أن طهران ستكون قادرة على تقديم "ضمانات عملية" بأنها لا تنوي تطوير أسلحة نووية، شريطة أن تتخلى واشنطن عن الضغوط الاقتصادية والعقوبات.
وقد كان هذا التوجه في التصريحات ناجماً إلى حد كبير عن تصريح المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.
وقد تم عقد صفقة مع الولايات المتحدة وتم تقديم العديد من التنازلات للجانب الآخر، لكن الأميركيين لم يلتزموا ببنود الاتفاق. نفس الشخص الذي في السلطة الآن (ترامب) قام بإنهاء العقد. قبل وصوله، لم يلتزم الذين عقدوا معه الاتفاق، وكان الهدف من ذلك رفع العقوبات الأميركية، لكن لم يتم رفعها، لا ينبغي أن يكون هناك مفاوضات مع مثل هذه الحكومة، وقال خامنئي في بيان "من الغباء والجهل وعدم النزاهة التفاوض".
ودعت موسكو باستمرار إلى العودة إلى الاتفاق وأكدت استعدادها لتقديم المساعدة لطهران، وإن روسيا منفتحة على التعاون مع إيران في القضايا المتعلقة ببرنامجها النووي، وقد ناقش الرئيسان الروسي والأمريكي فلاديمير بوتن ودونالد ترامب الوضع المحيط بهذه المشكلة خلال محادثة هاتفية في 12 فبراير/شباط.
من جانبها، أعربت السعودية عن استعدادها للتوسط بين إدارة ترامب وإيران للتوصل إلى اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي لطهران، وتخشى المملكة من أن يؤدي إضعاف حلفاء إيران الإقليميين باعتبارهم قوة ردع للكيان الصهيوني إلى أن تسعى طهران إلى تسريع تطوير الأسلحة النووية، وتأمل الرياض أن تستخدم علاقاتها الوثيقة مع دونالد ترامب لتزويد إيران بقناة دبلوماسية مع البيت الأبيض.
وتجدر الإشارة إلى أنه في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، استؤنفت المفاوضات بين ممثلي الدول الثلاث (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) وإيران في جنيف، حيث أن الغرب يريد تمهيد الطريق للتوصل إلى اتفاقات قبل عودة ترامب إلى الرئاسة الأميركية، وأبدت الدول الأوروبية اهتمامها بتجديد الاتفاق، وهذا الأمر أكثر أهمية الآن: فبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن رفع العقوبات عن إيران من شأنه أن يساعد في تعويض النقص في الهيدروكربونات، وخاصة النفط، والذي زاد مع فرض العقوبات ضد روسيا، لكن هذا لا يعني أن الدول الأوروبية مهتمة بتطبيع العلاقات مع طهران.
وأرسلت السلطات الإيرانية إشارات متكررة حول إمكانية الحوار مع الولايات المتحدة بشأن موضوع البرنامج النووي، وتسعى قيادة البلاد إلى تخفيف ضغوط العقوبات التي أدت إلى تفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجمهورية بشكل كبير.
وتجد إيران نفسها في وضع مربك، حيث تضطر السلطات إلى الاختيار بين السيئ والأسوأ، إذ أن اختيار الاتفاق مع مطالب ترامب يعني فقدان ماء الوجه ونسيان المبادئ الأيديولوجية الرئيسية، وبشكل عام يمكن القول إنه يعني الاستسلام، وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الخطاب الإيراني باعتباره تحركاً تكتيكياً يهدف إلى الحصول على ضمانات من ترامب بأن أي اتفاق محتمل لن يتم إلغاؤه، كما حدث في عام 2018.
في ظل هذه المعادلة المعقدة، يبقى الملف النووي الإيراني ساحة اختبار مستمرة للتوازنات الدولية، حيث تتداخل المصالح الاستراتيجية مع الحسابات السياسية والمواقف الأيديولوجية. وبينما تسعى القوى الغربية إلى فرض قيود صارمة على طهران، تتقن الأخيرة المناورة بين الضغوط والعقوبات، مما يجعل من الصعب التنبؤ بمسار الأزمة ومستقبل الاتفاق النووي. وفي ظل غياب رؤية موحدة وحلول جذرية، يبدو أن المشهد سيظل رهين التجاذبات، حيث تتأرجح المنطقة بين احتمالات التصعيد والانفراج، في انتظار من سيحسم قواعد اللعبة وفق معادلة القوة والتفاوض.
كاتب ومفكر – الكويت.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :