يتوالى مسلسل الابتزاز الأميركي منذ تولّي الرئيس الجديد، دونالد ترامب، مهامّه رسمياً، حيث بدأ هذا المسلسل مع فرض تعريفات جمركية على كبار الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وصولاً إلى تهديد بنما علناً، لانتزاع تنازلات منها، وتحديداً في ما يتصل بعلاقتها مع الصين، وسط تصاعد القلق الأميركي من العلاقات المتنامية بين بكين ودول القارة اللاتينية. وعلى غرار ما فعلته مع كولومبيا، يبدو أنّ تهديدات ترامب نجحت، نسبياً، في إخضاع السلطة البنمية لأجندة واشنطن. وبعد بنما، يتوجّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، إلى السلفادور وغواتيمالا وكوستاريكا وجمهورية الدومينيكان، والتي تعرّضت، جميعها، لتخويف من إدارة ترامب، على خلفية قضية «الهجرة غير الشرعية».
وبالعودة إلى بنما، وبعد اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي، الأحد، أكد رئيس البلاد، خوسيه راؤول مولينو، خلال مؤتمر صحافي، أنّ بلاده تبحث إنهاء مشاركتها في مبادرة «الحزام والطريق»، في وقت أبكر ممّا كان مخططاً له، مضيفاً أنّه حتى في حال لم تنجح في ذلك فإنّ حكومته، في جميع الأحوال، لن تجدّد مذكرة التفاهم التي جرى توقيعها عام 2017، بشأن المبادرة الصينية المشار إليها، والتي ستنتهي صلاحيتها بعد نحو سنة. وبطبيعة الحال، رحّبت واشنطن بخطوة الرئيس البنمي، فيما وصفها مستشار الأمن القومي الأميركي، مايك والتز، بأنّها «في الاتجاه الصحيح». وفي إشارة إلى أنّ بنما قدّمت ما يكفي من التنازلات، حتى اللحظة أقلّه، لواشنطن، طمأن مولينو، في أعقاب اللقاء، إلى أنّه «ما من تهديد جدي بحصول غزو أميركي» لبلاده، مقترحاً «استكمال المحادثات» بين الطرفين. وإذ أكد رئيس بنما للصحافيين أن بلاده «لن تتخلى عن السيطرة على القناة»، إلا أنّه أعلن، في المقابل، أن حكومته ستجري «تدقيقاً للموانئ التي تديرها الصين على جانبَي القناة»، على أن «تقدم النتائج إلى الولايات المتحدة»، عبر «فريق تقني»، يمكن أن يقدم توضيحات في حال وجود «أي شكوك أميركية» حول القناة. كذلك، اتفق الطرفان على السماح لواشنطن باستخدام قاعدة جوية حدودية للتعامل مع مسألة الهجرة غير الشرعية، بعدما اقترح الرئيس البنمي أنّ «تستخدم الولايات المتحدة بنما كجسر لطرد المهاجرين غير الشرعيين إلى دول أخرى في أميركا اللاتينية».
وبذلك، تكون التهديدات الأميركية التي تَمثّل أولها بإعلان ترامب نيّته ضمّ «قناة بنما»، بسبب ما وصفه بـ«النفوذ الصيني» فيها، ومن ثم تحذير روبيو، الأحد، من أن بلاده «ستتحرّك ضد بنما ما لم تُجرِ الأخيرة تغييرات فورية، لتقليص النفوذ الصيني في القناة»، قد بدأت تؤثي ثمارها. وفي إطار الضغوط الأميركية المستمرة، أبلغ روبيو، خلال زيارته الخارجية الأولى بصفته وزيراً للخارجية، بنما أن ترامب يعتبر أنّ الأخيرة «انتهكت المعاهدة التي جرى بموجبها تسليمها القناة عام 1999». وعلى ضوء ما تقدّم، يعتقد الكاتب وعضو مجلس الإدارة في «الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط»، رونغ هوان، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ العلاقات الأميركية الصينية - الأميركية ستشهد، في المرحلة القادمة أقلّه، «عدم استقرار»، مشيراً إلى أنّ «بكين أصبحت تمتلك، حالياً، الإمكانيات اللازمة للرد بقوة على أي انتهاك لمصالحها التنموية أو سيادتها وأمنها»، وإن كانت تفضل تجنب خوض حرب باردة، أو مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
دولة الجنوب
ولا يبدو اختيار روبيو للقارة اللاتينية كأول وجهة خارجية له محض صدفة؛ إذ إنه طبقاً لتقرير نشره «مجلس العلاقات الخارجية»، نهاية الشهر الماضي، فإنّ الشركات الحكومية الصينية أصبحت من المستثمرين الرئيسيّين في صناعات الطاقة والبنية التحتية والفضاء في القارة الجنوبية، وقد تجاوزت الولايات المتحدة هناك، لتصبح «أكبر شريك تجاري» للدول اللاتينية. كما وسّعت بكين وجودها الثقافي والدبلوماسي والعسكري في جميع أنحاء القارة، واحتفلت، أخيراً، بافتتاح ميناء ضخم في البيرو، كجزء من «مبادرة الحزام والطريق».
وطبقاً للموقع نفسه، وفي إطار ما يُعرف بـ«التعاون بين بلدان الجنوب»، نمت العلاقات الودية بين الحكومات اللاتينية والصين، وباتت الأخيرة، بالنسبة إلى العديد من الدول المشار إليها، بمثابة شريك حيوي بديل من العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا، بعدما عمدت إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية معها، جنباً إلى جنب تلك الثقافية والتعليمية. وانعكس ذلك، مثلاً، تضاؤلاً في دعم القارة اللاتينية لتايوان في السنوات الأخيرة.
وعليه، يعبّر صناع السياسة والمسؤولون العسكريون الأميركيون، مراراً، عن مخاوفهم بشأن الوجود الصيني المتزايد في القارة اللاتينية، في خضمّ انشغال واشنطن بـ«صراعات كبرى» في أوروبا والشرق الأوسط. وفي عام 2021، حذّر الأدميرال كريج إس. فالر، قائد القيادة الأميركية الجنوبية السابق، من أنّ واشنطن «تفقد ميزتها في ذلك النصف من الكرة الأرضية»، مشيراً إلى أنّ «هناك حاجة ملحّة إلى اتخاذ إجراءات فورية لعكس هذا الاتجاه». وبالفعل، حاول الرئيس السابق، جو بايدن، إعادة إحياء «دور واشنطن القيادي» في المنطقة، مطلقاً مبادرة «إعادة بناء عالم أفضل» (B3W) في عام 2021، مع نظرائه في «مجموعة السبع»، بهدف مواجهة «مبادرة الحزام والطريق» الصينية من خلال تطوير البنية التحتية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، بما في ذلك في أميركا اللاتينية. ومع هذا، خصصت إدارة بايدن 6 ملايين دولار فقط للمبادرة في عامها الأول، قبل أن تعاد تسميتها لاحقاً باسم «الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار»، من دون أن تحقق أهدافها.
وحالياً، يحذّر العديد من المراقبين من أنّ «الغطرسة» الأميركية التي ستطبع عهد ترامب، قد تقوّض ثقة دول القارة بالولايات المتحدة على المدى البعيد، وإن نجحت، في المرحلة الراهنة في انتزاع تنازلات منها، وتدفعها إلى المضيّ قدماً في تعميق علاقاتها مع الصين؛ إذ يتوقع الكثير من المراقبين أنّ وزير خارجية ترامب، روبيو، سيزيد من الضغوط على كل من الصين وأميركا اللاتينية، ولا سيما أنّه من المنتقدين الشرسين للحكومات اليسارية في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، جنباً إلى جنب الوجود الصيني في المنطقة. وفي إشارة إلى أنّ فنزويلا قد تكون على «لائحة» أهداف الإدارة الجمهورية المستقبلية، استغل روبيو زيارته لبنما، لبحث جملة من القضايا الأخرى، أبرزها ضرورة بناء «فنزويلا الديموقراطية والحرة».
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :