د. صالح النصولي
كان لخطاب القَسَم الذي ألقاه الرئيس العماد جوزاف عون إثر انتخابه في مجلس النواب الصدى العميق المفعم بالأمل والعزيمة، حيث حدّد رؤية تعكس تطلّعات الأمة وتدعو إلى الوحدة بين مختلف الأطياف اللبنانية في الأوقات الصعبة. وهذه الوحدة هي اليوم أكثر من أي وقت مضى حاسمة لمستقبل اللبنانيّين.
يواجه لبنان كثيراً من التحدّيات الناجمة خصوصاً عن سوء الحَوكمة، الانقسامات السياسية والطائفية، الفساد المستشري، سوء إدارة السياسة العامة، والقضايا الأمنية. وقد انعكست هذه التحدّيات في الأزمات الاقتصادية والمالية المستمرّة التي بدأت منذ عام 2019 ووصفت بأنّها واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ العالم.
كان للانهيار الاقتصادي عواقب وخيمة على الشعب اللبناني، ما أدّى إلى التضخّم المتصاعد والبطالة المرتفعة واستنزاف القوة الشرائية، والانخفاض غير المسبوق في مستوى المعيشة، وتضاعف معدّل الفقر في السنوات الأربع الماضية. القطاع المصرفي، الذي كان في يوم من الأيام ركيزة لاقتصادنا، أصبح اليوم متعثراً، حيث يتعذّر على المودعين الحصول على مدّخراتهم من المصارف. وفقدت الليرة اللبنانية معظم قيمتها.
ولا يمكن حل هذه الأزمة فقط بالاعتماد على تدفّقات المساعدات الخارجية أو بزيارات متفرّقة لشخصيات أجنبية أو لممثلين عن المؤسسات الدولية. ويتطلّب الحل تحوّلاً جذرياً في السياسات الإقتصادية والمالية في سياق برنامج إصلاحي وطني شامل لتعافي الاقتصاد الكلي والهيكلي مصمّم محلياً، ويحظى بدعم موحّد من جميع اللبنانيّين من أجل النجاح.
من خلال ما يقرب من 40 عاماً من الخبرة في صندوق النقد الدولي (IMF)، حيث كان لي شرف مساعدة كثير من البلدان في معالجة أزماتها الاقتصادية والمالية، حاولت المساعدة منذ بداية الأزمة عام 2019 من خلال اقتراح إجراءات تصحيحية فورية على الحكومة لتجنّب تفاقم الأوضاع الاقتصادية.
خلال زيارة إلى لبنان عام 2022، التقيت بمسؤولين حكوميّين وكتل برلمانية وكثير من النواب، وحضّيتُ على الوحدة، وحدّدت برنامجاً مفصّلاً للإصلاح، وشدّدت على الحاجة إلى تشكيل حكومة كفايات مستقلة تركّز على تنفيذ الإصلاحات الحاسمة اللازمة. كذلك أجرَيت مناقشات مع إدارة الهيئات الاقتصادية اللبنانية، وكنت على اتصال مع جمعية المودعين في شأن أهمية معالجة أزمة المودعين، وأجريت مناقشات مستفيضة مع رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب اللبناني. وهذه المناقشات ما زالت مستمرة، وما زلت أؤكّد دوماً حاجة لبنان الملحّة لوضع برنامج إصلاح شامل وإطلاقه، على أنّه يجب أن يُشرك المجتمع المدني والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية والجهات المانحة في إعداد هذا البرنامج ليكون ملكاً وطنياً يوفّر الدعم المالي الضخم المطلوب، ولإعادة هيكلة الديون.
سيحتاج مثل هذا البرنامج إلى حماية 6 ركائز رئيسية للاقتصاد، هي التي خدمت لبنان على مدى عقود من الزمن:
1- نظام مالي سليم: يجب على لبنان إعادة هيكلة النظام المصرفي لضمان سلامته وإعادة بناء الثقة فيه. وينبغي أن يشمل ذلك تعزيز الأطر التنظيمية، وفرض الالتزام بالشفافية المصرفية، واتخاذ التدابير لاستعادة الوصول الفوري للمودعين إلى الودائع المصرفية في شكل كامل في سياق برنامج إصلاحي شامل. ويجب أن تكون حماية حقوق المودعين في المقدّمة، ليس فقط من خلال حماية الودائع بكاملها، لكن أيضاً من خلال سَنّ إطار واضح وملزم قانوناً لحماية الودائع بكاملها.
2- سعر الصرف الموحّد العائم الذي تحدّده السوق: كانت المحاولة المصطنعة لتحديد سعر الصرف عند مستوى اعتباطي، من أهم أسباب الأزمة المالية الحالية، والتي تعقّدت بسبب إدخال أسعار صرف متعدّدة مشوّهة. تدعو الحاجة إلى سعر صرف عائم وشفّاف وموحّد تحدّده السوق الحرّة، أمراً بالغ الأهمية لاستعادة التوازن في سوق الصرف الأجنبي، وحماية الاحتياطيات، والقضاء على التشوّهات، وتعزيز الاستثمار والنمو.
3- الثقة في العملة الوطنية: انطلاقاً من إصلاح العملة الناجح الذي نفّذته ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لمكافحة التضخّم المفرط وإنعاش الاقتصاد، يحتاج لبنان إلى تنفيذ إصلاح للعملة الوطنية لاستعادة ثقة المواطن في النظام النقدي، من خلال إدخال عملة لبنانية جديدة ومدعومة بسياسات نقدية ومالية سليمة.
4- نظام مدفوعات خارجية حُرّ: من الضروري تجنّب ضوابط رأس المال، التي من شأنها أن تعزّز انتشار الأسواق السوداء، وكبت النشاط الاقتصادي، وإحباط الاستثمار المحلي والأجنبي. بدلاً من ذلك، يجب إنشاء إطار قوي وشفاف للمدفوعات الخارجية ليتيح للشركات والأفراد التعامل بحرّية. وهذا سيساعد في تطوير التجارة والاستثمار.
5- الحَوكمة الشفافة: سيتطلّب ذلك إصلاح النظام القضائي لضمان التنفيذ الفعّال لسيادة القانون، وتنفيذ تدابير لمكافحة استمرار الفساد الذي أدّى إلى فقدان ثقة المواطن وإلحاق الضرر بالنشاط الاقتصادي.
6- شبكات الأمان الاجتماعي: في الوقت الذي يتعامل لبنان مع هذه الإصلاحات، من الأهمية بمكان تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي التي تهدف إلى تخفيف معاناة الشرائح الأكثر فقراً من السكان، وذلك من خلال برامج المساعدة المستهدفة لتوفير الإغاثة اللازمة.
ولا يمكن المبالغة في التأكيد أنّ هذه الركائز لا يمكن صَونها في شكل فعّال بمفردها، وإنّما فقط في سياق برنامج إنعاش وطني شامل مملوك وطنياً، ويتمّ إعداده بالتعاون مع المؤسسات الدولية والدول المانحة.
هذه الإصلاحات طموحة لكنّها ضرورية ويمكن تنفيذها بسرعة في غضون بضعة أشهر. هناك إمكانية لخروج لبنان من هذه الأزمة أقوى وأكثر مرونة وقدرة على الوفاء بوعده الاقتصادي.
وسيعتمد هذا النجاح بنحو حاسم على ما إذا كان في إمكان اللبنانيّين تنحية انقسامهم جانباً والتوحّد لحماية مستقبل لبنان، من خلال وضع البلاد على طريق التعافي الوطني والانتعاش.
الأكثر قراءة
وانطلاقاً مما سبق، ثمة أصوات خافتة بدأت تتصاعد داخل أروقة القرار الأميركي حول عدم التركيز فقط على انهيار «الأمبراطورية» الإيرانية في الشرق الأوسط، بل لضرورة التنبّه للمشهد الجديد الآخذ في التكون، والذي يمنح التطرّف الإسلامي ملاذات آمنة وبوفرة، بدءاً من أفغانستان ووصولاً إلى سوريا. وتطالب هذه الأصوات إدارة ترامب بضرورة نسج استراتيجية كاملة متكاملة في الشرق الأوسط وفق التبدلات الهائلة التي حصلت.
وقد لا يكون هذا السبب وراء تأخير استدارة ترامب في اتجاه الشرق الأوسط وتالياً في اتجاه إيران. ذلك أنّ الإدارة الأميركية الجديدة، والتي بكّرت في فتح ملفاتها الداخلية الصعبة والخطرة، فضّلت على ما يبدو التنسيق الكامل والمسبق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قبل تحرّكها المنتظر. وهذا ما يجعل الزيارة المبكرة التي يقوم بها نتنياهو إلى البيت الأبيض مفصلية وأساسية للنزاع المفتوح مع إيران في المنطقة. كما أنّ «الإحتضان» المالي الهائل الذي بادرت به السعودية للرئيس الأميركي يعني ضمناً السعي لتفاهمات واسعة تبدأ من ملف الحوثيين ولا تنتهي مع الملف النووي الإيراني، وما بينهما مما يُعرف بساحات النفوذ الإيراني. فالسعودية والدول المتحالفة معها لم تكن راضية عن النتائج المتواضعة التي حققتها عملية «حامي الإزدهار». فهي تتطلّع إلى تغييرات جذرية في اليمن، تفتح الطريق أمام تثبيت مشاريع اقتصادية ضخمة بطابع استراتيجي.
ويصل نتنياهو إلى البيت الأبيض وهو مفعم بالأمل لصوغ خطة عمل أميركية ـ إسرائيلية كاملة متكاملة لإنجاز واقع جديد في المنطقة. فالإدارة الأميركية تعج بالمتحمسين لإسرائيل والمعادين في الوقت عينه لإيران والمحور الذي تتزعمه. القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية (سينتكوم) الجنرال فرانك ماكينزي قال في مقابلة صحافية، إنّ إيران تمرّ حالياً بواحدة من أضعف فتراتها منذ عقود، ومحور المقاومة أصبح ضعيفاً بمقدار كبير. فالحرب القائمة ضربت حركة «حماس» وأضعفت «حزب الله»، وجاء انهيار نظام الأسد ليوجّه ضربة حاسمة لإيران.
كلام ماكنزي يدفع في اتجاه إنهاء المطلوب مع إيران. ووفق قراءات بعض المطلعين داخل إدارة ترامب، فإنّه لا بدّ من تثبيت التبدّلات الجديدة على الساحة الفلسطينية، والمقصود هنا في غزة، من دون الإضرار بعملية السلام، وأيضاً تثبيت وترسيخ الواقع الجديد في لبنان من دون المسّ بالإستقرار الداخلي، والإنصراف إلى معالجة التحدّيات المطلوبة في اليمن والعراق. وترى هذه الأوساط أنّ تراجع السلوك العدائي للحوثيين يؤشر إلى الخشية الموجودة لديهم من المخاطر الآتية، كما تعكس حال الضعف التي أصيب بها «محور المقاومة». وتضيف، أنّ وضع رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني اختلف، حيث بات يعمل لتوثيق علاقته أكثر مع الدوائر الأميركية، بعدما كان في السابق يميل أكثر في اتجاه طهران.
لكن الصورة ليست بهذه البساطة التي يعتقدها البعض. فإيران التي باتت أكثر قلقاً حيال أمنها واسقرارها الداخلي باتت تسعى لاعتماد وسائل بديلة لحماية نظامها القائم، كمثل الذهاب لإنتاج السلاح النووي، وإنجاز تفاهمات مع قوى أخرى مثل روسيا، وعلى أساس منح موسكو تعويضاً حقيقياً لخسائرها التي لحقت بمصالحها الأمنية في سوريا.
والواضح أنّ نتنياهو وبالتفاهم مع ترامب خصص رحلته إلى واشنطن لعرض الخطة الإسرائيلية المقترحة، واستناداً الى النتائج العسكرية التي حققتها تل أبيب خلال أشهر الحرب الماضية. ما يعني أنّ عودة نتنياهو قد تؤشر إلى بداية مرحلة تصعيدية جديدة مع إيران والنفوذ الذي لا تزال تتمتع به في المنطقة.
لكن ثمة حسابات جديدة لا بدّ من أخذها في الحسبان. فخبراء الشرق الأوسط في واشنطن يضعون في الحسبان أنّ ضعف إيران والفراغات الناجمة عن تراجعها في الساحات خلق فرصاً أمام مخاطر من نوع آخر مثل المجموعات الإسلامية المتطرّفة، كما هو حاصل في سوريا اليوم. فبعد عودة «طالبان» إلى أفغانستان هنالك خشية من انزلاق الوضع في دمشق إلى حالة مشابهة. فالإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع تسعى لمنع حصول ذلك. لكن الظروف تبدو ضاغطة وغير مضمونة، وهو ما يدفع بالأوروبيين إلى مواكبة الوضع من كثب، والعمل على مساعدة الشرع في خطواته. وصحيح أنّ الشرع يبسط سلطته على مجموعته العسكرية، لكن ماذا عن المجموعات الأخرى المتعددة الإنتماءات، والتي لديها مصادر تمويل مبهمة ومجهولة. أضف إلى ذلك أنّه كان لـ«جبهة النصرة» سابقاً علاقات وثيقة مع تنظيم «القاعدة»، وحيث كانت تُعتبر أحد فروعه، وأيضاً كان لها علاقة مع تنظيم «داعش» قبل أن تحصل خلافات بينهما. لكن المنطلق العقائدي متقارب جداً. وبالتالي تصح المخاوف حول مدى الخروقات التي يمكن أن تكون حاصلة داخل صفوف «هيئة تحرير الشام». وهذا ما يدفع بمجموعة الحماية التابعة للشرع إلى التركيز على احتمال استهدافه أمنياً. وتحت هذا العنوان عمدت المخابرات المركزية الأميركية إلى إنشاء خطوط تواصل جانبية وغير معلنة مع الإدارة السورية الجديدة، وهو ما سمح بإحباط عملية لـ«داعش» ضدّ مقام شيعي قرب دمشق.
والمسألة هنا أبعد وأخطر من اختراقات أمنية. فالمساحات السورية الشاسعة لم يجر ضبطها وإخضاعها لسيطرة دمشق كلياً. وهذا الموضوع سيحتاج لوقت طويل لتحقيقه، والمقصود هنا سنوات. وبالتالي هنالك خشية من احتمال إنشاء معسكرات تدريب سرّية مرفقة بتجنيد كوادر جديدة تحت غطاء المناخ الديني الجديد، وإقامة مراكز تدريب في المناطق النائية مثل البادية السورية، والتي شكّلت ملاذاً لمجموعات «داعشية» في المراحل السابقة، كما أنّها شكّلت مناطق مثالية للقواعد الإيرانية.
وباب الخطر هنا لا يقف فقط عند مستوى الإستقرار السوري الداخلي الهش، بل إنّه يتعدّاه في اتجاه إمكانية تسرّب المتطرفين في اتجاه الأردن الذي يعيش توازنات داخلية دقيقة وحساسة، وفي اتجاه لبنان الذي لديه مناطق حساسة ملاصقة للحدود أكان في الشمال أو في البقاع.
من هنا يمكن تفسير القلق المصري من نمو مجموعات إسلامية مناهضة للحكم القائم في ظل المناخ الإخواني القائم في سوريا.
وعلى أنقاض الإرث الإيراني في سوريا بات واضحاً تشكّل محورين جديدين في المنطقة ولو تحت السقف الأميركي. المحور الأول والذي يعتبر نفسه الراعي الإقليمي للسلطة السورية الجديدة والمقصود هنا تركيا وقطر. وهو ما يفسّر زيارة أمير قطر كأول زعيم عربي إلى دمشق.
أما المحور الثاني فهو محور السعودية ومعها مصر وفرنسا، والذي أرسى دعائمه في لبنان. وأطاحت الخطوة الخاطئة التي نفّذها نجيب ميقاتي في اتجاه دمشق من خلال أنقرة بحظوظ عودته لرئاسة الحكومة.
ولأنّ تنافس هذين المحورين لا يزال مضبوطاً تحت السقف الأميركي، اختار الشرع وعلى الأرجح بمباركة المرجعيات الإقليمية التي ترعاه، التوجّه في زيارته الخارجية الأولى إلى السعودية. ذلك أنّ الرياض كانت أوفدت وزير خارجيتها إلى دمشق للدلالة إلى حرصها ألّا تبقى بعيدة من المشهد السوري، وأن تخلي الساحة بكاملها لمنافسيها.
ومن هذه الزاوية الحساسة يمكن قراءة تمسكها بحضورها في لبنان. وهذه مسألة لا تبدو قابلة للنقاش. وجاءت زيارة وزير الخارجية المصري لتصبّ في الإطار عينه. وهو أبدى كامل الدعم والمودة، وخرج بمواقف مصرية أوضح مما اعتادت عليه الديبلوماسية المصرية. مع الإشارة هنا إلى أنّ وزيري خارجية مصر والسعودية كانا على علاقة وثيقة منذ أن كانا يمثلان بلديهما كسفيرين في ألمانيا.
بالتأكيد لن يعترف أحد علناً بالمحورين الجديدين الناشئين، لكن إيران المستميتة بالمحافظة على ما تبقّى لها من موطئ قدم في ساحات نفوذها الإقليمية ستسعى لاكتساب أوراق مفيدة لها خصوصاً في سوريا، علّها تستطيع إبقاء «نربيج» الأوكسيجين موصولاً بينها وبين «حزب الله» في لبنان انتظاراً لظروف أفضل.
وفي المقابل، هنالك من يسعى الى توجيه «الضربة القاضية» لنفوذ «حزب الله» داخل السلطة، من خلال إقصائه كلياً عن الحكومة، وهي المشكلة الفعلية التي تقف حائلاً أمام ولادتها. لكن هنالك رأياً آخر داخل المجموعة نفسها، يرى في هذا السلوك تهوراً غير حكيم. إذ إنّ الواقعية تفرض التعامل بحكمة وتأنٍ، ولا داعي لهذا التوتر طالما أنّ المعادلة الإقليمية تبدّلت برمتها. وهو ما يعني أنّ الظروف تتطلّب سياسة استيعابية أكثر منها هجومية وصدامية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :