من الآخر: التأليف في مأزق، ونوّاف سلام مأزوم. أمّا المسؤولون عن هذا التعطيل فَهُم كثرٌ:
بداية هي سلسلة الأخطاء التي ارتكبها رئيس الحكومة المكلّف خلال مشاوراته مع الكتل النيابية، حين قرّر منح الثنائي الشيعي ما يريده، كما فعل أيضاً مع وليد جنبلاط، وحرم بقيّة المكوّنات السياسية هذا “الامتياز”، بحجّة التمسّك بصلاحيّاته من جهة، ورغبته برئاسة حكومة من خارج المألوف من جهة ثانية، الأمر الذي أدّى إلى رفع صوت الكتل المسيحية تحت عنوان المطالبة بالمساواة في المعايير والمواصفات. هذا علاوة على ميله إلى حصر تمثيل الطائفة السنّية بشخصه، حيث نقل عنه: “أنا أمثّل السنّة وأعطيت الطائفة الشيعية المجروحة. الدروز محلولة أمّا المسيحيون فليدبروا أمرهم مع رئيس الجمهورية”، وهو ما أثار نقمة الكتل السنّية واعتراضها على هذا الاستبعاد.
لكنّ الثنائي لم يكن أقلّ مسؤوليّة عن “كربجة” المسار الحكومي. صحيح أنّه كان أوّل المتفاهمين مع رئيس الحكومة المكلّف، لكنّه كان أكثر من أحرجه بإصراره علانيّة على تسمية وزير المال، “شاء من شاء وأبى من أبى”. بدا الثنائي وكأنّه يحاول تعويض الخسارة التي تعرّض لها في الاستحقاقين الرئاسي، الذي انضمّ إلى مركبه على مضض، والحكومي الذي اعتبره انقلاباً عليه. هكذا وقع سلام في المحظور، خصوصاً أنّه راح يُسقط قواعده الخاصّة على بقيّة الكتل النيابية، فيما الأخيرة تتأكّد يوماً بعد يوم أنّه استثنى الثنائي من هذا “الحصار” في المواصفات. وهو ما أدّى إلى فرملة المشاورات مع بقيّة الكتل تحت عنوان “كلنا يعني كلنا”. فهل تعطّل التشاور؟ وما هو دور الخارج في هذه المراوحة؟
لا أحد يملك معطى جدّياً أو حاسماً حول حقيقة موقف الخارج، وتحديداً الخماسية، وبالأدقّ الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، من المسار الحكومي والشروط الموضوعة للتأليف، خصوصاً أنّ سلوك سلام يوحي وكأنّه أشبه بحركة البورصة، ارتفاعاً وانخفاضاً، بين الاندفاعة السريعة المدعومة بالكثير من البراغماتية التي تناسب أجندة الثنائي، والتراجع تكتيّاً إلى الخلف بحجّة المواصفات غير التقليدية للتسميات الوزارية والضغط الذي يتعرّض له من جانب الآخرين، الأقربين والأبعدين.
لكنّ حاصِل هذه الطلعات والنزلات، وضع ولادة الحكومة في عنق الزجاجة: سلام نفض يديه من تفاهمه مع الثنائي وعاد إلى المربّع الأوّل الذي كان يفترض أن ينطلق منه لحظة بدء انطلاق مسيرة مشاوراته مع الكتل النيابية، أي مربّع المعايير المتمايزة التي تكسر المألوف والمتوارث في التأليف.
يقول أحد المتابعين إنّ المراوحة الحاصلة تعود إلى جملة عوامل، منها ما هو خارجي متّصل بخارطة الطريق الموضوعة للبنان، وفيها معايير يريدها المجتمع الدولي لكي تكون الحكومة موضع ثقة، ومنها مثلاً عدم توزير النواب والحزبيين، وهي تستهدف “الحزب” بشكل خاصّ. ومنها ما هو داخلي عكسته الضغوط التي تواجه رئيس الحكومة المكلّف، ومرتبط أيضاً بالتخبّط في أدائه. لكنّ من دفع الثمن هو ياسين جابر المقبول دوليّاً، كما يؤكّد أكثر من معنيّ. وهو ما يعني أنّ الأزمة الناشئة عن تسمية جابر للماليّة ليس مردّها الرفض الخارجي بقدر ما هي ناجمة عن سوء حسابات من جانب سلام.
سلام أمام أكثر من احتمال
بالنتيجة عادت المشاورات إلى نقطة الصفر. شكا سلام أمام الثنائي أنّه محاصَر من الكتل النيابية الأخرى لأنّه كان متساهلاً معهم. وهو لذلك مضطرّ إلى إعادة النظر بالتفاهم الذي أبرمه معهم، لا سيما في ما خصّ وزارة المال. وهذا ما قاله أمس أمام زواره، ليؤكد أنه من المستحيل أن يسمي وزراء قريبين من أي جهة سياسية. هكذا بات أمام أكثر من احتمال:
– إمّا إقناع الثنائي بتفاهم جديد لحفظ ماء وجهه، على قاعدة إبقاء المالية مع ياسين جابر إذا ما تمسّك به الثنائي، وهو المرجّح، وأن ينزع منهم إحدى الحقائب الخمسة، فتتمّ تسمية وزير شيعي من خارج الثنائي.
– إمّا قلب الطاولة رأساً على عقب وإقفال باب المشاورات بوجه كلّ الكتل، والعمل على وضع تشكيلة تتواءم مع معاييره، تحترم الكوتا الطائفية والمذهبية والمناطقية، وتضمّ وزراء اختصاصيين، غير استفزازيين للقوى السياسية، لكن غير موظّفين أيضاً. ويضع هذه التشكيلة أمام رئيس الجمهورية والكتل النيابية على قاعدة القبول بالأمر الواقع أو مواجهة المجتمع الدولي.
هذا مع العلم أنّ المتابعين يجزمون أنّ سلام لا يخبّىء في جيبه تشكيلة جاهزة أو تسميات محسومة. كلّ ما في ذهنه مجرّد أفكار.
بالمقابل، تؤكّد مصادر مطّلعة عن كثب على التأليف أنّ الفوضى الحاصلة هي نتيجة الخلافات الداخلية فقط لا غير، ولذا على سلام حسم خياراته ومقارباته، مشيرة إلى أنّ التقديرات تصبّ في خانة العمل على تجديد تفاهم رئيس الحكومة المكلّف مع الثنائي على صيغة وسطية مقبولة من الجانبين، ولا تثير حفيظة بقيّة الكتل النيابية، فتنال في نهاية المطاف الثقة وتحافظ على الزخم الدولي.
الأجندة الحكوميّة
في الواقع، ستشكّل الأزمة التي يواجهها سلام في التأليف، والمعالجات التي سيركن إليها في مهمّته، نموذجاً لمقارباته في رئاسته لحكومة العهد الأولى، التي ستكون لها أربعة عناوين أساسية:
– كيفية تطبيق القرار 1701، ذلك لأنّ المتابعين يؤكّدون أنّ المجتمع الدولي سيعطي هذه الحكومة مهلة محدّدة ليحكم على الآليّة التنفيذية التي ستضعها لتطبيق القرار، حيث إنّ مضامين البيان الوزاري في هذا السياق هي “عنوان للمكتوب” وحسب، لكنّ الحكم سيكون على التفاصيل.
– ورشة إعادة الإعمار التي ستكون عبر صندوق مالي ستتولّى الإشراف عليه هيئة دولية، ستبقى مرتبطة بسلوك الحكومة، وتحديداً بتنفيذ القرار 1701، مع العلم أنّ هذه الورشة مفصولة عن شروط صندوق النقد الدولي.
– الورشة الإصلاحية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وفي طليعتها إعادة هيكلة المصارف، وهي ممرّ إلزامي لاستعادة الثقة الدولية، التي من دونها لن تعود الاستثمارات الأجنبية إلى لبنان.
– الانتخابات النيابية التي يُراد منها أن تكون مدخلاً للتغيير الحقيقي من خلال كسر موازين البرلمان.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :