تُبنى الدولة على أساس دورها في تنظيم وإدارة مصالح القوى الاجتماعية التي تضم الأغلبية الساحقة من اللبنانيين (المواطنين!). وعلى أساس دورها لحماية هذه المصالح في قاعدة الهرم الاجتماعي والسياسي الداخلي.
"لبنان من الأمس إلى الغد". كتاب القاضي نواف سلام تحت هذا العنوان يعرض فيه رؤيته للإصلاح السياسي والدستوري التي جمعته بدعوات "المجتمع الدولي" وقوى النظام الرسمي العربي والمتعاطفين في لبنان. لكنه طموح لإصلاح شكلي في السلطة، يتوخّاه طريقاً لبناء دولة "الجمهورية الثالثة".
يتألف الكتاب من ثماني مقالات كُتبت على مدى أكثر من ربع قرن، وصدرت عام 2021 باللغة العربية عن "الشرق للكتب" وباللغة الفرنسية عن "أكت سود"، فجرى تبويبها في ثلاثة فصول، وتحديثها كي تتلاءم مع الاحتجاجات في لبنان 2019 ــ 2021 المسمّاة "ثورة 17 تشرين ــ أكتوبر".
اهتمامه بدور سياسي في الحكم نشأ مع ولادته العائلية البيروتية، التي ورثت عن الجد سليم سلام مؤسّس "الحركة الإصلاحية في بيروت" تقاليد المشاركة في الحكم، وعن العم صائب سلام رئاسة الحكومة.
لكنه آثر التأرجح بين مسارين: قانوني في جامعة هارفرد (ماجستير كلية الحقوق عام 1992)، حملَه إلى تمثيل لبنان في الأمم المتحدة، وإلى رئاسة محكمة العدل الدولية عام 2024. وبموازاة القانون مساره السياسي في جامعة السوربون ( ماجستير في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط عام 1979) ثم معهد الدراسات السياسية في باريس ( دكتوراة في الصراعات والتصورات السياسية للبنان المعاصر، 1992).
ولا ريب تفضيله المسار السياسي في باريس، على ما لحظ الانطباع الجامعي أثناء نقاش أطروحته، ثم تأكيد هذا الانطباع أثناء محاولة المرحوم جوزيف سماحة الجمع بين نواف سلام ونجاح واكيم في لائحة نيابية إصلاحية في بيروت، قبل تمديد المجلس النيابي عام 2008.
صلة المثقف نواف سلام في باريس مع دومنيك شوفالييه الأكاديمي المرموق، دمغت رؤية سلام للإصلاح السياسي كما دمغت غيره. (يعرضها سلام في كتاب بالفرنسية مع آخرين على شرف شوفالييه عام 2006). فالرجل علَم في دوائر التاريخ الفرنسي للبنان المعاصر، أوكل لنفسه رعاية قيادات سياسية لبنانية مثقفة ظهر منها "بكوات حمر" من "أولاد العائلات" كسمير فرنجية وأحمد بيضون وآخرين.
هذا المنحى كان حينها وجهة ثقافية وأكاديمية في أعقاب "ثورة 68" لإصلاح "الجمهورية الخامسة الفرنسية بتجديد الطبقة السياسية ودخول الجيل الجديد إلى المعترك الانتخابي، فلاقى صدى واسعاً في أوروبا وفي عالم الجنوب، كما في الأوساط الثقافية والسياسية اللبنانية، حيث كان النظام السياسي اللبناني يترنّح تحت وطأة هزيمة 67 التي غيّرت معادلات المنطقة وأفضت إلى صعود المقاومة الفلسطينية وانفجار الحرب الأهلية.
أزمة انهيار الدولة منسيّة؟
في هذا الخضم تربى معظم المثقفين والإصلاحيين وحملة الشهادات من الجامعات الفرنسية والأوروبية، على وصفة الإصلاحات السياسية والدستورية في مؤسسات الحكم، قاصدين بها طريق بناء الدولة "الديمقراطية الحديثة". وتجسّدت هذه الوصفة في "البرنامج المرحلي للحركة الوطنية في لبنان"، الذي خرجت منه الإصلاحات السياسية والدستورية المعروفة "باتفاق الطائف" عام 1989.
وفي مرحلة تالية، غزت وصفات "الإصلاحات الهيكلية" الاقتصادية، عالم الجنوب. وعلى الأثر، روّجت تيارات الانفتاح السياسي، إلى جانب جيوش الناشطين والمنظمات غير الحكومية، وصفة "الثورات الملوّنة". وهي وصفة في جزئها الأعلى إصلاح سلطة الحكم، وفي متنها الأعمق تشريع الاستعمار الجديد وخضوع المجتمعات إلى مصالح الشركات الغربية والمؤسسات المالية في قوانين السوق والديون والتجارة.
أهداف "المجتمع الدولي" من وراء هذه الوصفات الإصلاحية، تخريب البُنى الاجتماعية الحامية للهوية الوطنية، وتدمير قوى الإنتاج، ولا سيما الإنتاج الصغير والمتوسط. والمُبتغى قيام السلطة الإصلاحية بإلغاء دور الدولة الحامي للمصالح الوطنية العليا في السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية وفي السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية.
بناء الدولة مقاومة سياسية ودفاعية واقتصادية ــ اجتماعية
يذكر القاضي سلام في معرض المحاصصة الطائفية في السلطة، "أن إلغاء الطائفية يحتاج إلى قوى اجتماعية جديدة وتشكيلات مدنية جديدة..."، وهذا ما كان قد تناوله في كتاب "الإصلاح الممكن والإصلاح المنشود، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1989". وفي كتاب آخر "أبعد من الطائف، مقالات في الدولة والإصلاح، دار الجديد، بيروت، 1998".
لكنّ عرضه يتصوّر القوى الاجتماعية والمدنية الجديدة، منفاخاً جديداً في قربة إصلاحات السلطة المثقوبة، وأصواتاً في صناديق الاقتراع في صف الملوَّنين الداعين إلى "دولة مدنية ترتكز على قيَم العدالة والمساواة والحرية... بدلاً من الطائفية والمحاصَصة".
بينما يفترض تغيير الطائفية والمحاصصة في السلطة من فوق، تغيير انتماءات القوى الاجتماعية في قاعدة الهرم الاجتماعي والسياسي من تحت. وذلك بانتماء القوى الاجتماعية إلى مصالحها الاقتصادية ــ الاجتماعية، وبالتالي إلى المصلحة الوطنية العليا فوق الانتماءات الطائفية والجهوية والعائلية والعصبوية الأخرى.
بيت القصيد أن تُبنى الدولة على أساس دورها في تنظيم وإدارة مصالح هذه القوى الاجتماعية التي تضم الأغلبية الساحقة من اللبنانيين (المواطنين!). وعلى أساس دورها لحماية هذه المصالح في قاعدة الهرم الاجتماعي والسياسي الداخلي، وفي سياستها الخارجية مع دول "المجتمع الدولي" على وجه الخصوص.
وفي زحمة تجديد الحديث عن بناء الدولة، يعزّ عدم مشاركة أصحاب المصلحة الاقتصادية ــ الاجتماعية في بلورة سياسة الدولة الداخلية لحفظ مصالح المزارعين والصناعيين والحرفيين ومجمل القطاعات الإنتاجية والخدمية... ويعزّ كذلك عدم مشاركة القوى السياسية والثقافية والروابط المهنية والروحية والمدنية... في تفاعل الرؤى السياسية والحلول والبدائل، لإرساء سياسات الدولة الداخلية، ومع المحيط الإقليمي و"المجتمع الدولي".
على العكس من ذلك، تطغى على حديث بناء الدولة دعوات الانصياع إلى وصايا "المجتمع الدولي"، واعتبار الوصاية الدولية فرصة جديدة لا تعوّض "نساعد بها أنفسنا لكي يساعدنا المجتمع الدولي" بالأموال لوجه الله. ويطغى على دعوة الصلة بالعالم العربي موسم السمسرة ولغة تسوّل المكارم الأخوية، عوض سياسة الدولة نحو تبادل المصالح المشتركة والتضامن الأخوي لبناء التكامل الإقليمي العربي ــ التركي ــ الإيراني.
وبينما يشنّ مجتمع أميركا الدولي حرب إبادة وتدمير شامل في غزة ولبنان، بأسلحة حرب عالمية بين الدول العظمى، تتجدّد في لبنان دعوات الاتكال على "المجتمع الدولي" سياسة دفاعية لبناء الدولة. وتتجدّد المطالبة باتخاذ الوصاية الدولية سبيلاً "لاستعادة السيادة وقرار الحرب والسلم".
ولا مناص من بلورة رؤى فكرية وسياسية ترتكز على تفكيك التبعية لبناء سيادة الدولة، وترتكز على تأهيل الدولة، بالقدرة على خوض الحرب سبيلاً للردع وتحقيق السلم. وهو ما تختلف به دولة الاسم على مسمى، عن "دولة الموز".
ولا مناص من أن تستجمع الدولة كل قدرات الشعب والمقاومة والطاقات والأسلحة القتالية والسياسية والدبلوماسية... في استراتيجية دفاعية قتالية. وعلى هذا الطريق، ينبغي للدولة اللبنانية الانضمام إلى دعاوى محاسبة جرائم الإبادة، وانضمام اللبنانيين إلى مساعي أحرار العالم الساعية إلى تجريم "إسرائيل" والمشاركين معها في حرب الإبادة.
في مستهل كتابه، يستعير القاضي سلام من أنطونيو غرامشي: "القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وبين العبور من الظلمة إلى النور تتفشى شتى أشكال الموبقات". لكن غرامشي يقول:" لا يستطيع كائن مَن كان أن يمتطي ظهرك إذا لم تنحنِ".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :