الحكومة والجنوب في النزاع الإقليمي

الحكومة والجنوب في النزاع الإقليمي

 

Telegram

 

كان من المفترض أن يشكّل انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان والتغييرات الكبرى التي طاولت سوريا، بدايةً لحقبة جديدة عنوانها إبعاد لبنان عن محاور النزاع في الشرق الأوسط وأخذه في طريق آخر أكثر استقراراً. وقد يكون تحقق كثير من مستلزمات هذه النقلة، لكن ليس كلها، وهو ما تشي به بعض خلفيات النزاع الدائر حول ولادة الحكومة وأيضاً وقف إطلاق النار في جنوب لبنان.

ولا جدال في أنّ إيران خسرت ورقتها الإستراتيجية في سوريا، وتلقّت ضربات قوية في لبنان وغزة، لكن لا يبدو أنّها في وارد التخلّي الطوعي عمّا تبقّى من نفوذها الإقليمي، لا بل على العكس فهي تتمسك بالحفاظ على ما تبقّى، وتراهن في الغالب على عاملي الوقت والظروف (وهي لعبتها المفضّلة) لإعادة بناء ما تهدّم، وهو ما توحي به سياستها حتى الآن على الأقل. وفي المقابل يسعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو (وخلفه اليمين الإسرائيلي) والذي يخشى من «السأم» أو التعب الأميركي لاستغلال الظرف وتوجيه الضربة القاضية لإيران.

ولذلك يتوجّه نتنياهو باكراً إلى واشنطن للقاء ترامب. ذلك أن يلتقي رئيس حكومة إسرائيلية رئيساً أميركياً تسلّم لتوه مقاليد السلطة فهذا أمر ملفت. صحيح أنّ الزائر هو صديق حميم، لكنه يبقى غريباً بعض الشيء أن يحصل اللقاء بعد أسبوعين فقط على دخول ترامب مكتبه الرئاسي. ما يعني أنّ هنالك ما هو أبعد من لقاء «صديقين». فالزيارة المبكرة تحصل بعد دعوة ترامب النافرة حول استضافة الغزاويين في الأردن ومصر، وكذلك بعد رفع الحظر عن تزويد إسرائيل القنابل الثقيلة، وحيث اعتبرت الخطوة موجّهة في اتجاه إيران.

في المشهد الإقليمي، تبدو إيران وكأنّها تركّز سياستها على أساس استيعاب الهجمة الأميركية المتوقعة. فهي تبدي مرونة سياسية لا لبس فيها، كمثل ما صرّح به أخيراً وزير خارجيتها عباس عراقجي بأنّ بلاده على استعداد لتلقّي عروض التفاوض من ترامب حول برنامجها النووي. وفي موازاة ذلك ذهبت إلى موقف دفاعي في اليمن، حيث أعلن الحوثيون وقف استهدافهم للسفن الأميركية والبريطانية، وفي العراق أيضاً، حيث خفتت بنحو ملحوظ دعوات التنظيمات الشيعية الموالية لطهران لإخراج القوات الأميركية من العراق. كذلك غاب الكلام الرسمي عن وجوب إنهاء مهمات تلك القوات ولو وفق برنامج متدرّج ومتفق عليه. وهو ما بات يرجح بقاء هذه القوات.

لكن وفي الوقت نفسه لجأت إيران إلى اتفاقات مع موسكو، ولو أنّها بقيت في إطار الشراكة ولم تصل إلى مستوى التحالف. ولفت إعلان إيران بأنّها اشترت طائرات حربية روسية متطورة من نوع «سوخوي 35»، وهو ما يؤشر ضمناً إلى تعويض خططها الدفاعية بعد اختبار عسكري فاشل لخطتها القديمة، مرّة بعد خسائرها الجسيمة في غزة ولبنان وسوريا، ومرّة أخرى بعد الضربات التي تلقّتها منظومة الدفاع الجوي الإيرانية خلال العملية الجوية الإسرائيلية الأخيرة. لكن الخبر أنّ إيران تستعد أيضاً لاحتمال تجدّد المواجهة العسكرية.

وانطلاقاً مما سبق، فإنّ نتنياهو المحاصر داخلياً يعتقد أنّ هنالك لحظة نادرة وفرصة تاريخية يجب التقاطها لاستكمال مشروع القضاء على النظام القائم في إيران. ويدعم عدد من رجال إدارة ترامب هذا التوجّه، ما سيسمح بإعادة تشكيل المنطقة برمتها.

في الواقع، تستعد إدارة ترامب لإنجاز صفقة مع طهران ترتكز على ثلاثة أضلع:

ـ البرنامج النووي.

ـ وقف دعم إيران لحلفائها بغية تقليص قدراتهم إلى أدنى حدّ ممكن.

ـ إعادة تشكيل الخريطة السياسية للشرق الأوسط.

وصحيحٌ أنّ ترامب كان توعّد مراراً بأنّه سينفّذ سياسة الضغوط القصوى على إيران واقتصادها المتهالك، لكنه بدا واضحاً أنّه لا يريد التورط في حرب إقليمية، وأنّ سلاحه الوحيد هي العقوبات الإقتصادية لإجبار إيران على التفاهم على ركائز جديدة لسياستها. لكن ترامب نفسه لم يستبعد الإستعانة بالقدرة العسكرية لإسرائيل في حال تطلّب الأمر ذلك، وهنا بيت القصيد.

ومن هذه الزاوية تسعى إيران إلى تفعيل سلاح جوها بعد الضربات التي طاولت دفاعها الجوي، وإلى شبك مصالحها مع مصالح روسيا التي خسرت مواقعها في سوريا وباتت مصالحها تفرض عليها الإقتراب أكثر من طهران.

وعندما غزا الجيش الأميركي العراق عام 2003، شعرت إيران بمخاطر استراتيجية كبيرة وباشرت بتكثيف جهودها الدفاعية من تطوير أنظمة الصواريخ إلى الطائرات المسيّرة ووصولاً إلى البنية التحتية المحصّنة.

لكن الحصانة التي تتمتع بها إيران لا تنحصر بقدراتها العسكرية الدفاعية فقط بل بالمصالح الدولية وخصوصاً الأميركية، ما يحول دون أخذها إلى الفوضى. فإيران بمساحتها البالغة 1,6 مليون كلم مربع والغنية جداً بالمواد الأولية تتجاور مع 13 دولة وتستطيع التحكّم بمضيق هرمز الذي تمرّ عبره نسبة 20% من إمدادات النفط العالمية. ما يعني أنّها في حدودها الحاضرة تُعتبر ذات موقع فائق الأهمية وقادر على لعب دور أساسي في خطة مناكفة التمدّد الصيني واحتوائه. لكن ثمة ما هو أبعد، وهو ما يراهن عليه نتنياهو غالب الظن. فترامب متفق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية على إنهاء البرنامج النووي الإيراني واستكمال التصدّي لايران و»أذرعها» في المنطقة لترسيخ واقع نهائي جديد. لكن نتنياهو يتمنى جرّ ترامب إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. وقد يكون فتحه الملفات الداخلية الخطيرة يساعد في هذا الإتجاه. فالرئيس الأميركي باشر مغامرته الداخلية بتغيير بنية النظام القائم تحت شعار البدء بالإصلاحات الداخلية، وهذه المغامرة الصعبة والدقيقة تحمل مخاطر اندلاع فوضى داخلية عارمة. والمعروف تاريخياً أنّ هروب الرئيس من المصاعب الداخلية يدفع به إلى التحدّيات الخارجية بما فيها الحروب، وقد يكون هذا هو رهان نتنياهو.

واستطراداً فإنّ لبنان عالق في الكباش التقليدي بين سلطة لا تزال في أول انطلاقتها وفق المسار الجديد الجاري تثبيته، وبين «حزب الله» الذي يحاول ليس فقط وقف المسار التراجعي بل أيضاً استعادة بعض أوراق القوة في الداخل لمنع التلوينة الإقليمية الجديدة.

في الجنوب اندفع «حزب الله» في مسعاه بعدم الرضوخ بطريقة أو بأخرى لقرار خروجه من الساحة. وإذا كانت القدرة العسكرية غير متوافرة حالياً لأسباب مختلفة فإنّ الحضور السلمي الشرس قد يكون قادراً على تأمين المطلوب. هذا مع العلم أنّ إسرائيل والتي باشرت برفع مستوى السخونة في الجنوب وربما مستقبلاً في العمق اللبناني، لا تبدو في وارد الإنسحاب قريباً. ما يعني أنّ المهلة الجديدة هي مهلة صورية طالما أنّ الأمور لم تُحسم كلياً بعد على مستوى المنطقة مع إيران، وهو ما ينذر باحتمال استمرار الضغوط بكل أشكالها على لبنان.

وفي اللعبة الداخلية، إذا كان هنالك من خسائر على مستوى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، فإنّه لا بدّ من التعويض على مستوى التركيبة الحكومية، ومن هذه الزاوية يتمّ التطلّع الى الحصة الشيعية ووزارة المال. لا بل أيضاً ثمة همس بأنّ «حزب الله» اشترط أن تُمنح حقيبة الأشغال من بعده للحزب «التقدمي الإشتراكي». وهذه النقاط أثارت «الرعاة» الجدد للساحة اللبنانية ما أدّى الى تأخير ولادة الحكومة اللبنانية. إذاً، الكباش الحكومي ظاهره نزاع داخلي على حقائب وحصص، لكن خلفيته الفعلية تتعلق بتثبيت المعادلة الجديدة أو إجهاضها.

ومن هذه الزاوية تمّت قراءة «انتفاضة الموتوسيكلات»، والتي حملت رسائل عدة أبرزها على الإطلاق «أنّ قدرتنا على المشاغبة والتلويح بالفوضى لا تزال كبيرة ولم تتبدّل».

وقريباً تزور الموفدة الأميركية الجديدة لبنان في زيارة طابعها تقني وإداري أكثر منه عملي. وبعد ولادة الحكومة وحتى بعد 18 شباط، من المحتمل أن يزور لبنان موفد ترامب مسعد بولس في مهمّة سياسية. لكن الأهم تلك التطورات التي من المفترض أن تشهدها الملفات المفتوحة مع إيران، والتي لا يزال يخضع لبنان لتأثيراتها المباشرة.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram