التحدّي الأكبر لحكومة سلام: إرساء نهج اقتصاد سياسي مختلف

التحدّي الأكبر لحكومة سلام: إرساء نهج اقتصاد سياسي مختلف

 

Telegram

 

يجد لبنان نفسه عند مرحلة انتقالية جديدة مع انتخاب الرئيس جوزاف عون وتسمية القاضي نواف سلام لرئاسة الحكومة. كثيرة هي المراحل الانتقالية التي مرّت عبرها البلاد في ظل سياق سياسي وواقع إقليمي شديدَي التقلّب، ممّا يدفع الرأي العام للتساؤل حول تميّز هذه المرحلة عن غيرها في العقود السابقة.

وممّا لا شكّ فيه أن منطقة المشرق بشكل عام دخلت واقعاً مختلفاً، مع سقوط نظام الأسد وتضييق قدرات حزب الله وحلفاء إيران في المنطقة. بالنسبة لفئة كبيرة من الفاعلين السياسيين في لبنان، يسمح هذا الواقع الجديد بفتح آفاق العمل السياسي التغييري وحرية التنظيم في لبنان، على أمل بناء دولة تؤمن الحد الأدنى من الخدمات وتبسط سيادة القانون وحتى الازدهار.

من جهة أخرى، يجدر الذكر أن تركيبة ما يُسمّى بالدولة العميقة، أي المؤسسات العامّة وبيروقراطياتها وهيمنة المصارف والتحاصص الطائفي وغيرها من الميزات لا تزال نفسها بشكل عام. السؤال يبقى إلى أي عمق ستغوص الحكومة الجديدة (والرئاسة بطبيعة الحال) لمواجهة تسلّط القوى السياسية التقليدية على زوايا حوكمة المؤسسات الرسمية المختلفة والاقتصاد السياسي للبلاد.

في خطاب القسم، أشار الرئيس عون إلى ضرورة بناء دولة قانون ووضع اقتصادي يتّسم بالازدهار. وفي صورة مماثلة في خطابه الأوّل، أشار سلام إلى ضرورة إنقاذ وإصلاح وإعادة إعمار لبنان بعد سلسلة من الأزمات والحرب الأخيرة. مع تاريخ من الالتزام بالدفاع عن حقوق الانسان وخصوصًا الفلسطينيين، وهوى سياسي يساري رافق عمله الحقوقي، يأمل سكّان لبنان أن يكون مجيء نواف سلام جزءاً من عمليّة إعادة إعمار وخيارات سياسية جديدة مبنيّة على قيم المساواة والاستدامة، لا على النهج القديم.

لا يزال الوضع الاقتصادي في لبنان في حالة تأزّم، حيث تستمر معدّلات الفقر والحرمان في لبنان بالارتفاع، بينما يشير تقرير تصنيف مرحلة الأمن الغذائي المتكامل إلى معاناة حوالي المليون ونصف مليون شخص في لبنان من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. في ظلّ هذا الواقع، ما هي أهمّ الملفات الاقتصادية التي على الحكومة الجديد معالجتها في أسرع وقت ممكن لتجنّب المزيد من التأزم الاقتصادي والانساني في البلاد؟

إعادة الإعمار والقروض الدولية
أشارت تقديرات وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام أنّ الحرب كلّفت لبنان ما بين 15 و20 مليار دولار أمريكي. تشمل هذه الأضرار المباني السكنية والبنى التحتية ومؤسسات تقدّم خدمات أساسية كمؤسسات المياه والمؤسسات الصحية وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، خسر أهالي المناطق الأكثر تضرّراً من الضربات الاسرائيلية كمّاً هائلاً من وسائل الدخل الخاصة بهم، لاسيما في قطاعات الزراعة والصناعة والمهن الحرة.

من هنا، وبغضّ النظر عن النقاش الدائر حول مسؤولية التعويض ما بين حزب الله والدولة، إن المساعدات التي قدّمها حزب الله غير كافية لتلبية حاجة العائلات الأكثر فقرًا، خاصة العائلات التي فقدت مصادر دخلها على المدى الطويل. من أجل تأمين عملية إعادة إعمار وخطة تعافي عادلة، على الحكومة القادمة الأخذ بعين الاعتبار حاجة المناطق الأكثر حرمانًا من الخدمات العامة، لتفادي عمليّة بناء دولة وإعمار قد يُنظر إليها أنّها إقصائية.

من الملفات ذات العلاقة مع إعادة الإعمار هي علاقة لبنان مع المنظّمات الدولية والمانحين، كالبنك الدولي، حيث سيتطلَّب من الحكومة اللبنانية القادمة التجهيز لخطة متماسكة على أساسها التفاوض من أجل قروض أو الوصول إلى اتفاقية مالية هادفة.

موازنة 2025 وإدارة المال العام
وسط الجمود السياسي الذي مرّ به البلد في المرحلة السابقة لم يتثنّ لحكومة تصريف الأعمال إقرار موازنة العام 2025 على مقياس موازنتي 2024 و2023 اللتَين زادتا الأعباء على الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسّط. من هنا تتقدّم موازنة 2025 بين أولوّيات الحكومة القادمة، خصوصًا مع ضيق المهل واقتراب الشهر الثاني من العام، مع ضرورة تقديم نهج مختلف من الإدارة المالية العامة.

وهنا أيضًا تأتي أهمّية أخذ عملية إعادة الإعمار بعين الاعتبار، حيث يحب أن تعكس موازنة الحكومة عملية إعادة الإعمار من خلال تخصيصاتها المختلفة، لا سيّما في القطاعات الحيوية والمنتجة كالصحة والطاقة والمياة والزراعة وسلاسل توريد الغذاء.

إن تفاصيل الموازنة  ليست سوى جزء من إشكالية إدارة المال العام الأوسع في لبنان. فالإنفاق من خارج الموازنة وانعدام الشفافية في إدارة المال العام تأتيان في صلب المشاكل المزمنة للإدارة المالية العامة.

كما وتترابط فوضى إدارة المال العام بمسألة جوهرية أكثر، وهي غياب التخطيط وأي نوع من خطة تعافي مالية. والضرر الناتج عن هكذا غياب له آثار وخيمة على الحكومات المستقبلية، فهي تؤدي بطبيعة الحال إلى غياب قواعد البيانات والإحصائات اللازمة والتحليلات الاقتصادية الضرورية لخطط مالية سليمة، سواء قصيرة المدى أو طويلة المدى.

هذا ولم يتطرّق التحليل إلى ضرورة تحديث لبنان للإدارات، وخصوصًا المالية منها، والتخلّي عن وسائل العمل القديمة التي تزيد من بطء المعاملات البيروقراطية وعدد الأخطاء البشرية، كما الأعباء الإدارية على كافة موظّفي القطاع العام.

الدين العام
لقد كان للدين العام آثاراً سلبية هائلة على الاقتصاد اللبناني بشكل عام خلال العقود الأخيرة، حيث أدّت مستويات الدين الهائلة المدفوعة بفوائد مرتفعة إلى خنق النمو الاقتصادي المحلي وتحويل الموارد بعيدًا عن الخدمات الاجتماعية الأساسية.  

يبقى الدين العام من الملفات الأساسية التي لم تتعامل معها الدولة اللبنانية منذ العام 2019. منذ قرار الحكومة اللبنانية بالتخلّف عن سداد سندات اليوروبوند، لم تقم السلطات المتتالية بتقديم أي نوع من الرؤية لكيفية إعادة هيكلة الدين العام، والاتفاق مع الدائنين حولي صيغة مختلفة لجدولة هذه الديون وقيمة الفوائد وغيرها من التفاصيل.

وبدلاً من ذلك سعت السلطات السياسية والمالية إلى تحويل الخسائر في القطاع المالي إلى ديون مستحقة على الدولة للمودعين، في سيناريو تقليدي لنهج الاقتصاد السياسي المتمثّل في خصخصة الأرباح وتأميم الخسائر.

من المهام الأساسية للحكومة القادمة تقديم رؤية لكيفية تعاملها مع سندات اليوروبوند، التي تشكّل الجزء الأكبر من الديون بالعملات الأجنبية، والعمل على إعادة هيكلة الدين العام بشقّيه الرقمي والتفاوضي (مع الدائنين) وتقديم صيغة للتعامل مع الدين من جهة والحفاظ على مستوى عالٍ من الصرف على الخدمات العامة من جهة أخرى.

التعيينات وحوكمة القطاع المصرفي
أحد الاختبارات الأساسية للحكومة القادمة هو خياراتها للتعيينات في المناصب العامة، كما الآلية لإدارة هذه التعيينات. ما بين موظّفي الفئة الأولى والثانية، ستدير الحكومة آلاف التعيينات، من بينها مناصب قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان والمدير العام لوزارة المالية وغيرها من المناصب الأساسية. وهذا أحد الاختبارات الأساسية كونه يتطرّق إلى أُسُس توغّل وصلابة السلطة السياسية الحاكمة حيث النهج المحاصصاتي قائم في جميع زوايا المؤسسات العامة. من هنا، يبقى السؤال إن كانت الحكومة القادمة، وبالأخص رئيسها سلام، قادرة على إرساء نهج جديد للتعيينات بشكل خاص وحوكمة المؤسسات العامة بشكل أوسع. هل ستكون هذه التعيينات قائمة على محاصصات أحزاب السلطة والانتماء الطائفي، أم على كفاءة الموظّفين ورؤيتهم لإدارة مناصبهم بشكل يؤمّن إدارة عادلة وحمائية لحقوق السكّان الأساسية التي يدفعون ثمنها بالضرائب والرسوم المختلفة؟

أمّا في القطاع المصرفي، فقد دفع لبنان ثمن الهندسات المالية، وتواجد حاكم مصرف مركزي متماهي مع جمعية المصارف التجارية لتبديد ودائع اللبنانيّين. يقدّر تقرير شركة التدقيق الفاريز اند مارسال على سبيل المثال أنّ كلفة الهندسات المالية 76 مليار دولار.

حتى اليوم، لا تزال الشفافية شبه معدومة حول كيفيّة إدارة المال العام إلى درجة لم تشهدها البلاد حتى في ظلّ عقود الحرب الأهلية والأزمات المتتالية. تمتلك الدولة اللبنانية حوالي الـ6 مليار دولار في مصرف لبنان بحسب الميزانية العمومية لمصرف لبنان بتاريخ 15 كانون الثاني 2025، وهو رقم يستمر في الارتفاع نتيجة خيارات المصرف المركزي بالتدخّل بعرض الليرات وشراء الدولارات، مع العلم أنّ لهذه الخيارات آثار مهمّة على قدرة الدولة على إنفاق المال العام على القطاعات الاقتصادية المختلفة.

اليوم، من أولويّات الحكومة القادمة إطلاق عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهي عملية قيّدتها السلطة الحاكمة بفريقها المصرفي، لاسيّما عبر رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان والنائب جورج عدوان.

إن الضرّر المتعلّق بانحياز النهج السياسي القائم لجمعية المصارف وإحباط أي محاولة لتعزيز الشفافية والإدارة الصحية لودائع الناس لا يقتصر على النتائج المباشرة لسوء حوكمة القطاع المصرفي. هو أيضًا يؤثّر على قدرة لبنان على الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي طلب من لبنان سلّة من الإصلاحات تتضمّن خطّة إعادة هيكلة للقطاع المصرفي وإلغاء قانون السرية المصرفية والتدقيق بالأصول الأجنبية لمصرف لبنان وتعزيز الشفافية وغيرها من الإصلاحات ذات الصلة. كما أنّ هذه الإصلاحات القطاعية والمالية، لا سيّما مع الصدى العالمي الإيجابي الذي تبع مجيء سلام لرئاسة الحكومة، ستسمح باستعادة بعض الثقة التي خسرها لبنان من الدول الداعمة تاريخيًّا له.

بالمحصّلة، تترابط هذه الأولويّات الاقتصادية وتنضوي تحت عنوان أكبر، وهو حاجة لبنان إلى نهج جديد في الاقتصاد السياسي، من نهج خدماتي ريعي يهيمن عليه أصحاب رأس المال وكبار التجار وأصحاب المصارف، إلى نهج اقتصاد سياسي مبني على تأمين الحماية الاجتماعية اللازمة للفئات الأكثر فقرًا، على دعم القطاعات المنتجة وحماية الانتاج المحلّي من الصدمات، وعلى العدالة الاجتماعية بمعناها العملي المرتكز على توزيع عادل للثروات وفرص المشاركة.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram