سريعاً بدأ القلق والخوف يتسرب إلى اللبنانيين. من الفرح العارم إلى الحذر وتوقع الأسوأ في الشأن السياسي. على الأرجح، لا يعاني معظم اللبنانيين من "الاضطراب الثنائي القطب" (Bipolar Disorder) الذي يبقيهم متقلبين بين حدّي الغبطة والاكتئاب "غيرالمبررين". لكنهم خبروا، بتكرار التجارب، أن منطق الابتزاز والتهديد والتهويل نجح دائماً في فرض لغته على ما سميّ -اجتهاداً- الحياة السياسية في لبنان.
بدع سياسية
على امتداد عقود لم يختبر اللبنانيون حياة سياسية "سليمة" محددة المفاهيم وواضحة المعايير والتفسيرات. تناسلت الالتباسات وتداخلت في الحديث عن الموالاة، المعارضة، تداول السلطة، التصويت، المحاسبة والمساءلة والمنافسة والخيارات الاقتصادية المعلنة وغيرها الكثير. وكان التهافت المخزي للعمل السياسي الديموقراطي.
ابتدع اللبنانيون، خصوصاً منذ الطائف إلى اليوم، مفاهيم جديدة للسياسة. ترجموها بعبارات أقرب إلى البدع. فصارت "التوافقية" كلمة إلزامية تلي كلمة الديموقراطية. وصارت الحكومات مجلس نواب مصغّر. أغدق توصيف "عجيب" على الحكومات فبات لزاماً أن تكون "حكومة وحدة وطنية"! تحوّلت المحاصصة مفردة مألوفة. وسلّط الخوف المقيم من إيقاظ "الفتنة السنية -الشيعية" سيف الغلبة دوماً لصالح رغبات "الثنائي الشيعي"، نتيجة سطوة سلاح حزب الله.
جاء العهد الجديد، مع كل المتغيّرات الداخلية والإقليمية والدولية، ليفتح كوة أمل جعلت اللبنانيين يرون من خلالها فرصة لاستعادة بعض من إيقاع العمل السياسيّ "الطبيعيّ". عاجلهم "الثنائيّ" باستحضار كلام عن الطعن و"قطع الأيدي" ليتطور إلى التهديد المبطن واستحضار "العزل" و"الإنعزال"، وما ينطوي عليه في الذاكرة البعيدة من تمهيد لحروب وفتن، وفي الذاكرة القريبة من "أيام مجيدة" سطّرها حزب الله.
فإلى أين من هنا؟
لا يريد اللبنانيون أن يُحبَطوا. وفي جزء غير هامشي، ساهم الرأي العام اللبناني بالإتيان برئيس الحكومة المكلف تمام سلام، من خلال "مناخ" عام دفع بخيار سلام إلى الواجهة ليواكب التغييّر "النوعيّ" في رئاسة الجمهورية.
لكن اللبنانيين أنفسهم، الذي ترجم سلام بعضاً من طموحاتهم، لا يواكبون التغيير في المنصب الأول والثالث في الجمهورية بالقدر نفسه من الضغط. وبالتالي، هم أنفسهم يتعاطون مع نقاط قوة سلام القاضي النزيه، المثقف، غير الطائفي، المنفتح، والمتمسك بالدستور، وكأنها صفات تؤهله لخوض معارك "حكومته" وحده.
قال سلام من القصر الجمهوري "أريد حكومتي حكومة نهوض وإصلاح. وأنا ملتزم بعدم توفير أي جهد لولادة حكومة على قدر آمال اللبنانيين وتستحق ثقتهم جميعًا". لكن الثقة ليست علاقة من طرف واحد. بالتالي يحتاج سلام إلى أن يبادله إياها اللبنانيون فيحضنون خياره بـ"حكومة نهوض وإصلاح"، ويسهمون في إبقاء "مناخ" الضغط الإيجابي قائماً.
هذا ما لا يحدث. وكل تأخير في التشكيل يزيد من "إحباط" اللبنانيين، ويعكسونه انسحاباً من المتابعة الدقيقة والاهتمام التفصيلي بتشكيل الحكومة. ويتوجسون من أن تُفرض مجدداً قواعد التشكيل القديمة بتوازناتها وحساباتها.
حكومة تتناسب ومهامها
ليس تفصيلاً أن يراهن بعضهم على "قوة الدفع الخارجية" لإنجاز تشكيل الحكومة.
وقد عبّر أحد الأساقفة الموارنة لـ"المدن" عن ذلك مؤكداً "إننا نسمع، آسفين، كثر من اللبنانيين يعلّقون الآمال على التدخل الخارجي لولادة الحكومة المنتظرة. لكننا نتفهم ذلك وسط عجز الداخل عن الانتهاء من هذه المهمة للبدء بمعالجة الملفات الكثيرة العالقة". مشدّداً على "وجوب تشكيل حكومة تتناسب مع المهام المطلوبة منها في كل المجالات. وهي مهام دقيقة وكبيرة، وقد أقول خطيرة، في ظل كل التطورات الداخلية والأحداث في المنطقة والتغييرات على مستوى العالم".
ويختم الأسقف كلامه بـ"نصيحة لكل الطبقة السياسية بأن تتواضع. وإن أي تنازل، من أي جهة، هو للبنان ومصالحه وتسيير شؤون أبنائه. نملك اليوم فرصة للعودة إلى النهج المؤسساتي، وإلى سلوك طريق النهوض الإقتصادي وتمتين أسس الدولة. إذا اضعنا هذه الفرصة سيكون الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون مكلفاً جداً، له تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية قد تصل إلى تغيير هوية البلد".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :