«مئة عام من العزلة»... الواقعية السحريّة أصابت نتفليكس

«مئة عام من العزلة»... الواقعية السحريّة أصابت نتفليكس

 

Telegram

 

يتميز المسلسل بالالتزام بالرواية الأصلية، مع الحفاظ على الشخصيات المعقّدة والحبكة المتشابكة والمناخات الغرائبية. أعاد فريق العمل خلق بلدة ماكوندو بشكلٍ دقيق، آخذين على عاتقهم إنتاج ما اعتُبر عصياً على تصويره!

مغامرة خطيرة وغير متوقعة خاضتها منصة نتفليكس آخذةً على عاتقها إنتاج ما اعتُبر عصياً على تصويره. اليوم، بات في إمكاننا الاستعاضة عن قراءة رواية غابرييل غارسيا ماركيز المذهلة «مئة عام من العزلة» بمشاهدتها بعدما نجحت المنصة في إدخال الرواية إلى عالم الشاشة من الباب العريض. آخر إنتاجات نتفليكس لعام 2024 وأضخمها، مسلسل «مئة عام من العزلة» (ثماني حلقات ــــ تبلغ مدة الحلقة الواحدة ساعةً) المقتبس عن رواية الأديب الكولومبي الذي حصد جائزة «نوبل» عام 1982.

دائماً ما رفض ماركيز عروض منتجين أرادوا تحويل روايته إلى عمل سينمائي، وكان شديد الحرص على عزل روايته عن الكاميرا، مصرّاً على أنّه كتبها بأسلوبٍ يجعل من قراءتها بمنزلة «معايشة حلم غريب وفاتن». وربما آخر هؤلاء المنتجين الذين أرادوا تبنّي «مئة عام من العزلة» سينمائياً كان هارفي فينشتاين الذي تواصل مع ماركيز في هذا الشأن وتلقّى منه جواباً يكاد يكون فكرة فيلم: «صوّر الرواية برمتها، ولتكن مدة كل فصل مصوَّر منها دقيقتين، وانشر كل عام فصلاً لمدة مئة سنة». غير أنّ نتفليكس التي حصلت على حقوق الرواية عام 2014، أي قبل وفاة ماركيز بقليل، أظهرت أنّ خوف الأخير من استحالة الوسيط البصري محايثة النصّ الروائي والعجز عن تبيان فضائه الغرائبي لهو خوف واهٍ.

المسلسل الذي استمرّ العمل على إنتاجه لما يقرب من ستّ سنواتٍ، يأخذنا إلى المكان الذي يريد الكولومبي أن يأخذنا إليه. ليس المقصود هنا «ماكوندو»، تلك البلدة العجيبة التي تجري فيها أحداث الرواية، إنّما المكان باعتباره فضاءً فانتازيّاً تسوده الغرابة، حيث الألفةُ منزوعةٌ عن الأشياء، وحيث تذوب الحدود الفاصلة بين ثنائيات تبدو لنا، في الحقيقة، متناقضة.

إنها الواقعية السحرية -كأسلوبٍ أدبيّ- التي كان ماركيز يخشى أنْ تعجز العين عن رؤيتها في حال صوِّرت الرواية ووجدت نفسها على مسرح الفرجة. لكنّ فريق الإنتاج (ابنا ماركيز منتجان منفّذان) تعامل مع الرواية بحساسيةٍ عالية، فاستطاع احتواء الثراء والكثافة اللذين يتّسم بهما هذا الأسلوب الأدبيّ وتأطيرهما بصرياً، حتى غدا العمل الدراميّ قادراً على جعل القراءة توازي المُشاهدة.

تبدأ الحلقة الأولى من «مئة عام من العزلة» بالاستهلال الشهير الوارد في الرواية الذي يأتي على لسان الراوي العليم: «بعد طول السنين، بينما وقف يواجه فصيلة الإعدام، تذكر الكولونيل أوريلياندو بوينديا ظهيرة ذلك اليوم البعيد عندما صحبه أبوه لاكتشاف الجليد». تبدأ الرواية بخوف يصيب شخصية أساسية تواجه لحظة موتها، نهايتها. الزمن في «مئة عام من العزلة»، عنصر هجين وهشّ، فالماضي والمستقبل مثل البداية والنهاية، يتداخلان وينصهران، وليس الحاضر سوى فسحة تجري فيها عملية الدمج والتحوّل. يستقي المسلسل بنيته السردية من هذه المزية للواقعية السحرية. هناك قفزات زمنية لأحداث وردت في الرواية لم يتم إدخالها إلى المسلسل، غير أنّ هذا الحذف أو البعثرة هو في شكلٍ ما صناعة شكلية، وبالأحرى إذعان لأسلوب الواقعية السحرية نفسها؛ فالإخراج يلعب بدوره مع السرد ومع الغرابة التي تسود النص. سنتعرّف إلى الكولونيل أوريلياندو لاحقاً، إنه ابن خوسيه أركاديو أوريلياندو مؤسّس بلدة «ماكوندو»، وهو من الجيل الأول لعائلة أوريلياندو التي تسرد لنا الرواية سيرة أجيالها السبعة، وفي الجزء الأول الصادر عن نتفليكس نتتبّع سيرة أجيالها الثلاثة فقط.

اللعنة تطارد عائلة بوينديا ولا أحد بوسعه الهروب من قدره أو التحايل عليه. خوسيه أركاديو تزوج من قريبته أورسولا والخرافة الشعبية التي تقتنع بها والدة أورسولا تقول إنّه سينجم عن هذا الزواج ولدٌ يملك ذيل خنزير. ستتردّد أورسولا في الإنجاب، وما زاد الطين بلّة أنّ خوسيه أركاديو تعرّض لإهانة طالت زوجته من قبل صديقه أغيلار، فعمد أركاديو إلى قتله. شبح أغيلار سيظهر على خوسيه أركاديو وزوجته في كل ليلةٍ، فارتأيا الخروج من البلدة والذهاب بعيداً إلى ما وراء البحار، لبدء حياتهما من جديد في مكان استقرّا فيه أطلق خوسيه أركاديو عليه تسمية «ماكوندو» بعد حلمٍ راوده، وقد وردت فيه هذه الكلمة. ولعلّ كلمة «ماكوندو» التي تبدو كوعاء فارغ جاهز حتى يملأ ـــــ إذ إنّها لا تعني شيئاً لكنها صارت تعني شيئاً ــــ تشكّل استعارةً لعالم ماركيز الطافح بالغموض والسحر، الذي تشيّده الغشاوة، فالغاية الأخيرة هنا هي الأثر المتروك فينا قبل أن يكون المنطق ويحضر العقل. مهما بدا الحدث مكشوفاً أمامنا، يبقى أنّ مساحة التأويل تأخذ حجماً أكبر من الحدث نفسه، لأنّ فضاءات ماركيز كثيفة وثريّة، ولأن قوّة خفيّة تدعى القدر تغيّر المسارات في السرّ، وتحرّك التفاصيل والأشخاص مثل الدمى.

يجيز لنا مسلسل «مئة عام من العزلة» الغرق في التآلف بين الخيالي والحقيقيّ، وبين الشيء ونقيضه. في عالم ماركيز، إنّ الخلاء فسحة مأهولة، مثلما بوسع ما يُعدّ مأهولاً أنْ يكون عرضةً للأشباح ولحضور المريع. كل شيء في «ماكوندو» يقع تحت تأثير السحر واللعنة والرؤى عند المتبصّرين ونبوءات العرّافين. كل شخص مسحور بشيء ما، ومسكون أيضاً بقلق معيّن. إنه عالم ينطوي على الدهشة، ويمتلك سلطة الإدهاش. ستتلقّف الرؤية الإخراجية في مسلسل «مئة عام من العزلة» هذه الدهشة وستلعب الكاميرا دور المرآة، بحيث تعكس هذه الدهشة على المتفرِّج ليقف إزاءها عاجزاً. لا مبالغات في المسلسل حتّى في أكثر الفقرات تشويقاً، لا تسريع للإيقاع السردي عند تراصّ الأحداث وعند بلوغ العُقدة حدّها الأقصى. يحيط «مئة عام من العزلة» بكل التفاصيل الواردة في الرواية، بدءاً من اللباس، مروراً باللغة المنطوقة (الإسبانية)، وصولاً إلى عدم انصياعه للصوابية السياسية، ولمعايير نتفليكس ذاتها، وهذا يعدّ شيئاً استثنائياً على المستوى الإنتاج الفني. نعثر على قصة حبّ تجمع أوريلياندو والفتاة التي لم تبلغ بعد عمر الرشد تماماً كما هي مسرودة في الرواية، من دون إضافة أو حذف. تشكّل الألوان الزاهية منعطفاً في المسلسل، حيث لا تشير إلى مرحلة القرن الثامن عشر، أي الزمن الذي تزعم الرواية أنّها تنتمي إليه، إنّما توظَّف كانعكاس لفضاء الواقعية السحرية؛ فالألوان الزاهية تشي بمناخ نوستالجيّ، كئيب وبهيج في آن، وتحيل إلى «شيء» حاضر لكنّه في طور الرحيل والغياب، إنّه ما لا يمكنك القبض عليه.

ثمة تعاطٍ فنّي على درجة عالية من الحساسية مع الصورة في المسلسل. نجد مثلاً الليل الحالك عندما يأتي المساء، حيث يهيمن الأسود بشكلٍ كلّي على الشاشة لكن يحضر نورٌ خافتٌ كي لا تغيب الظلال. للظلال وجود في «مئة عام من العزلة» حتى عندما تدخل أشعة الشمس من النوافذ. فالواقعية السحرية ليست السريالية، وليست خيالاً علميّاً ولا خيالاً بحتاً... إنها فنّ تجاور النقائض وذوبانها ببعضها البعض؛ حيث الألفة تقف على حدود الغرابة، والمدينة بجانب البحر، والميت يتكلم مع الحيّ وهكذا.
استطاع منتجو العمل خلق هذا «التغريب» الذي يُفضي إلى ثراء حسّي عند المتلقي، نابع من صورة مكثّفة تبدو طازجة جداً، ولكنّها في الوقت ذاته تنتمي إلى عصرٍ فائت.
يسير «مئة عام من العزلة» على إيقاعٍ بطيء من دون الوقوع في الحشو المستنزِف، أو التبسيط الساذج لغايات استهلاكية وتجارية، وكون الأمر يتعلّق بنتفليكس فهذا أشبه بسحرٍ حلّ على المنصّة، أو قد تكون الواقعية السحرية تغلغلت هناك وفعلت فعلها.

* One Hundred Years of Solitude على نتفليكس

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram