ثمّة عناوين كثيرة تمثّل مركز الاشتباك السياسي في لبنان. والانتخابات الرئاسية قد لا تشكل المدخل المناسب لمعالجة الأسباب، ولا حتى تكليف رئيس الحكومة أو تأليفها على النحو المناسب لصورة الجماعات اللبنانية. وما يجب التعامل معه بهدوء، هو المناخ الذي تحصل هذه الأحداث في ظله. من الصحيح القول إن وصول العماد جوزف عون الى رئاسة الجمهورية وتكليف نواف سلام تشكيل الحكومة ما كانا ليحصلا لولا الحرب الإسرائيلية على لبنان. والأمر لا يتعلق، هنا، بموقف الرجلين من العدو، ولا بما سيعملان من أجله لاحقاً، بل بأن حزب الله الذي كان يملك حق الفيتو سابقاً خسر هذه الأفضلية، وبات عليه التعامل برفق وعناية مع كل استحقاق داخلي أو إقليمي. وتماماً كما فعل مع الوضع الجديد في سوريا، فهو يتعايش مع الوضع المستجدّ في لبنان. لكن السؤال، الذي لا يملك كثيرون الجواب عنه، لا يتعلق بقدرة حزب الله على الفعل، بل بما يريده في المرحلة المقبلة.
واضح من النقاش السياسي العام في لبنان أن هناك غالبية لا تعرف ممّا جرى سوى ما يصلها من مكاسب مباشرة أو غير مباشرة. فخصوم حزب الله المحليون لم يأبهوا لطريقة وصول عون الى بعبدا ولا الى طريقة تكليف سلام، لأن المهم بالنسبة إليهم هو أن مجرد وصول الرجلين يمثّل ضربة للحزب. لكن هذه القوى المحلية سرعان ما تجد نفسها في مواجهة تعقيدات تحول دون ترجمة ما تعتبره نصراً على شكل حقائق في الداخل، ليس لعجزها فقط عن تحقيق ذلك، بل لأن التغيير الذي طرأ لم يكن نتاجها، ودورها لم يتجاوز دور الشاهد المتآمر، عدا عن أن طاحونة لبنان لا تبقي على شيء متى انطلقت عجلتها. الغريب في الأمر، هو تأفّف خصوم حزب الله من عقد رئيس الجمهورية تفاهماً مسبقاً مع الحزب، ويتحوّل التأفف الى استنكار مع الاستماع الى معلومات عن مفاوضات قائمة بين الطرفين حول الحكومة وتركيبتها وحول بيانها الوزاري.
بمعزل عن قوة تأثير اللاعبين المحليين في ما يجري، فإن تدخل الولايات المتحدة والسعودية بشكل سافر، كان ضرورياً لإنجاز خطوتَي الانتخاب والتكليف. وهذا لا يعني أنه لا وجود لعناصر محلية للحدث. لكن هذه العناصر تتحوّل الى «حيلة» يمكن استخدامها في معرض المناكفة السياسية، مثل ما يفعل الرئيس المكلف اليوم، أو ما يحضّر له رئيس الجمهورية، من خلال القول إن الأغلبية الشعبية تدعم تغييراً كبيراً ونوعياً في البلاد وإدارتها. لكنّ أحداً لا يقول لنا كيف تمّ احتساب هذه الأغلبية، لأن بين احتجاجات تشرين 2019 واستحقاقات 2025، جرت تطورات كثيرة، أبرزها الانتخابات النيابية التي عكست حقيقة المزاج الشعبي. ففاز من فاز من المعارضين للتركيبة السياسية، وخرجت قوى بصورة كاملة من المشهد النيابي، وتقزّمت أخرى الى حدود دنيا. لكن، ويا للأسف، فإن التمثيل الذي نتعامل معه اليوم، على شكل مجلس نيابي، هو تمثيل يعكس الانقسامات السياسية على خلفية طائفية. ويكفي أن يطلب الرئيس المكلف من أحد مساعديه أن يأتيه بالأرقام حول عدد الأصوات التي نالها داعموه من التغييريين، وعدد الأصوات التي نالها آخرون من «قوى المنظومة»، وعندها سيتبيّن له أن الصورة ليست كما تعرضها «قنوات كل العهود»، الشغالة من دون توقف. وبالتالي، فإن المسألة تعيد سلام نفسه، وقبله الرئيس عون، الى مربع الحسابات اللبنانية.
هذا لا يعني بالضرورة أن يخضع عون وسلام لمعايير العمل نفسها التي اعتادتها القوى السياسية، بل يمكنهما استغلال الرغبة الشعبية بمغادرة مربع الإحباط والكسل الى مربع الأمل والعمل، من أجل الدفع نحو تغيير في الأداء. كما بمقدورهما الاستفادة من الزخم السعودي والأميركي لإلزام بقية الشركاء بوقائع جديدة، وخصوصاً إذا تمكّنا من الحصول على أكثر من تعهدات بدعم لبنان مالياً واقتصادياً. لكن، ورغم كل ما سبق، فإن أدوات الإدارة اليومية تعيد الرجلين الى واقع الحسابات نفسها، حيث يحتاجان الى تسويات حقيقية مع القوى التي لها حضورها وتأثيرها الفعلي، ليس في مجلس النواب فقط، بل في الشارع أيضاً.
وفق هذه القواعد، تستمر المساعي لتشكيل الحكومة الجديدة. ومن دون قفازات، يمكن عرض الوقائع على الشكل الآتي:
أولاً: يعتبر الرئيس عون أنه وصل الى الرئاسة رغماً عن كل القوى السياسية، ومع ذلك، فقد دعاها إلى طيّ الصفحة وبدء مرحلة تعاون يحتاج إليها الرجل لعدم تعطيل انطلاقة العهد. وهو يرى أن تشكيل الحكومة الأولى يمثل المفتاح الرئيسي، ولذلك لا يعارض تسويات وزارية مع القوى النافذة محلياً، ولا يمانع أن يعقد الرئيس المكلف اتفاقات مع القوى الكبيرة على الحصص والحقائب.
ثانياً: يعتبر الرئيس عون أن توقيعه على مرسوم تشكيل الحكومة يمنحه حق الفيتو على ما يرد فيها من أسماء، وهو أمام خيارين: إما الدخول في صفقة كبقية القوى، فيقبل بحصة مقابل حصص الآخرين، أو أن يبتعد قليلاً محتفظاً بحق رفض الاسم الذي لا يراه مناسباً لهذه الحقيبة أو تلك، كما له الحق في لفت انتباه الرئيس المكلف الى تشكيلة قد تعارض مقدمة الدستور.
ثالثاً: يتصرف الرئيس المكلف أيضاً على أنه جاء بنصف موافقة محلية، وأن الأساس كان تدخّلاً من الخارج في اللحظة المناسبة لترجيحه على غيره. وبالتالي، فإن لديه هامشاً شبيهاً، وليس مطابقاً، للهامش الموجود لدى رئيس الجمهورية. إلا أن نواف سلام يعود الى لبنان من تجربة قادته الى الدبلوماسية الأكاديمية والسياسية في الأمم المتحدة قبل تجربته القانونية الأكاديمية والسياسية في محكمة العدل الدولية، وهو، بالتالي، حريص على صورة الرجل الملتزم بالدستور والقوانين، فكيف إذا كان يملك رأياً في الدستور المعمول به، ومستعداً، وفق كتابات سابقة له، وكما في كلمته يوم تكليفه، لمناقشة تعديل الدستور. ولكن، الى حين حصول ذلك، فهو يريد التصرف وفق ما يمنحه إياه الدستور من صلاحيات. ولذلك حرص على أن يكرر أمام رئيسَي الجمهورية والمجلس النيابي والكتل النيابية أنه لن يتنازل عن صلاحياته في تشكيل الحكومة.
رابعاً: يعرف سلام أن النظام في لبنان يوجب عليه الحصول على ثقة مجلس النواب. وموضوع الثقة لا يمكن أن يكون مطابقاً لموضوع التكليف، إلا في حالة خروج دونالد ترامب يهددنا بجحيم إن عطّل اللبنانيون تشكيل الحكومة. وهذا يعني، ببساطة، أن على الرئيس المكلف صياغة تفاهمات مع أغلبية نيابية وازنة توفر له الثقة التي يحتاج إليها كي تنطلق حكومته. ونظراً الى معرفته بالدستور روحاً، وليس نصاً فقط، يدرك أن الأمر لا يتعلق بحسابات الأصوات في المجلس النيابي، لأن ما يُعرَف في لبنان بالميثاقية، لا يحتاج الى كتلة نيابية كبيرة حتى يفجّر الحكومة، فكيف الحال إذا ما قررت كتل كبيرة، كالقوات اللبنانية أو التيار الوطني الحر أو حزب الله أو حركة أمل مقاطعة الحكومة؟
خامساً: ما تقدّم يجعل سلام مستعداً لتوافقات. لكن ما يحتاج الى تدقيق هو مدى استعداده لعقد صفقات فعلية مع هذه القوى، بحيث يكون مضطرّاً إلى الأخذ برأيها أو مطالبها حيال أمور أساسية، تبدأ بالبيان الوزاري ولا تنتهي بالحصص والأسماء. وعلى ما يظهر حتى الآن، يريد الرجل أن يشكل حكومة، لكنه يدرس الشكل الأفضل الذي يمنع رئيس الجمهورية من شطب الأسماء فيها، ولا يحجب ثقة الكبار في مجلس النواب عنها، إلا إذا كان يريد خوض مغامرة من نوع: «هذا ما لديّ، وافعلوا ما يحلو لكم».
سادساً: لنواف سلام رأيه في ما خص الوضع في المنطقة، وموقفه الواضح حيال ما قامت وتقوم به إسرائيل في لبنان وفلسطين والمنطقة. لكنه لا يريد أن يسير في التسوية التي كانت قائمة سابقاً بما خصّ وضع المقاومة. وهو ربما لا يرى أن الوقت مناسب لوضع بند نزع السلاح في مقدمة بيانه الوزاري. لكنه، في المقابل، يبحث عن صيغة للعبارات التي يسأل عنها حزب الله حول الموقف من المقاومة، ولديه الحل من خلال نصوص مواد أممية، ولا سيما المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي». إذ يجد فيها ما يتيح للشعب اللبناني مقاومة أيّ احتلال أو اعتداء، ويحفظ للدولة اللجوء الى المؤسسات الدولية من أجل حماية الحقوق. كما من شأن هذه الصيغة ليس إرضاء المقاومة فقط، بل عدم إغضاب خصومها، ولا سيما أن جلّهم من أنصار احترام قرارات الشرعية الدولية.
سابعاً، وأخيراً، يتعلق بالعلاقة التي ستقوم بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية. فسلام يدرك أن عون يتمتع بحظوة عربية ودولية أكثر منه، وأنه في موقع محصّن أكثر من موقع رئيس الحكومة، كما لا يوجد من ينافسه الآن على موقعه في رئاسة الجمهورية. وفوق ذلك، يعي أن للرئيس عون طريقته في إدارة الأمور. وربما يعتقد رئيس الجمهورية أن في الإمكان فرض أعراف جديدة في طريقة تطبيق اتفاق الطائف، تماماً كما فرضت الأعراف منذ توقف الحرب الأهلية حتى اليوم، بينما ليس لدى سلام من جواب على معالجة موضوع الأعراف، سوى بالذهاب نحو نقاش حول إدخال تعديلات على الدستور. لكنها تعديلات تقتصر على تصحيح ما يعرف بخلل المهل، وليس على أساس الصلاحيات الموزعة بين السلطات الدستورية. وبالتالي، فإن على سلام الاستعداد منذ الآن لتثبيت موقعه في إدارة مجلس الوزراء، فلا جوزف عون هو إميل لحود حتى يتقمّص سلام شخصية الرئيس فؤاد السنيورة، ولا جوزف عون هو إلياس سركيس حتى يتقمّص هو شخصية سليم الحص. بل كل ما عليه أن يفعله، هو أن يستيقظ صباحاً، ويفرك عينيه جيداً، قبل المباشرة في ورشة لا تسير وفق تصورات الفرق الاستشارية التي تحوم حوله، بل وفق حاجات الناس الحقيقية، وهي الحاجات التي تحتاج الى إدارة قوية وليس إلى حكام أقوياء.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :