سيتم، اليوم الاثنين، تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية بعد فترته الأولى التي انتهت قبل 4 سنوات، في ظل توقعات قوية بسعيه لإعادة صياغة النظام الدولي من ناحية وتصورات الولايات المتحدة لدورها ودور القواعد الدولية في هذا النظام.
وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)، قالت ليزلي فينجاموري مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركتين في المعهد إن الجرأة التي يعيد بها ترامب قواعد الدبلوماسية الأميركية مذهلة. فتهديداته بفرض رسوم جمركية على منتجات أصدقاء الولايات المتحدة تأتي في وقت سيء. فالنمو الاقتصادي في العديد من أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى ضعيف للغاية، والدول تكافح للتغلب على التضخم المرتفع، وستضر الرسوم المحتملة بالقطاعات الاقتصادية التي تعتمد على التجارة.
ليزلي فينجاموري: إن تم إضعاف القيود القانونية والمعيارية للسيادة، سيزداد الاعتماد على الردع مصداقيته لمنع القوى الكبرى الأخرى من استخدام القوة العسكرية لتغيير حدودها
ليزلي فينجاموري: إن تم إضعاف القيود القانونية والمعيارية للسيادة، سيزداد الاعتماد على الردع مصداقيته لمنع القوى الكبرى الأخرى من استخدام القوة العسكرية لتغيير حدودها
ورغم ذلك فإن تصورات ترامب الجيوسياسية أخطر من ذلك بكثير. فالدول التي تعتمد على المساعدة العسكرية الأميركية مثل تايوان وأوكرانيا تخشى تخلي واشنطن عنها. والآن يتحدث ترامب عن رغبته في ضم غرينلاند وكندا إلى بلاده وفرض السيطرة على قناة بنما بالقوة، وفرض عقوبات على المكسيك بسبب تهريب المخدرات والمهاجرين عبر الحدود. لذلك يحاول قادة الدول الأوروبية وكندا والمكسيك إيجاد الطريقة المناسبة للتعامل مع التحديات التي سيفرضها ترامب على العالم ككل وعلى دولهم بشكل خاص.
وأعلن مسؤول حدودي كبير في إدارة ترامب القادمة أن سلطات الهجرة ستنفذ اعتقالات جماعية للمهاجرين غير المسجلين في جميع أنحاء البلاد الثلاثاء.
وبعد ورود تقارير في صحيفة وول ستريت جورنال وغيرها من وسائل الإعلام تفيد بأن الإدارة الجديدة تخطط لتنفيذ “مداهمات” في شيكاغو بدءا من الثلاثاء، أكد توم هومان، المعروف باسم “قيصر الحدود” الجمعة لقناة فوكس نيوز “ستكون هناك مداهمات كبيرة في جميع أنحاء البلاد. شيكاغو ليست سوى واحدة من أماكن عدة“.
وأكد هومان أنه في يوم الثلاثاء “ستنطلق وكالة الهجرة والجمارك أخيرا للقيام بعملها. سنزيل الأصفاد عن دائرة الهجرة والجمارك ونسمح لها بالقبض على الأجانب المجرمين“.
ويعتبر التقارب مع ترامب والتودد إليه أحد الخيارات المطروحة. وينصح جون بولتون مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب السابقة قادة العالم بذلك قائلا “اتصلوا به والتقوا معه، وتحدثوا إليه عن أي شيء. وإذا فشل كل ذلك تعلموا كيف تلعبون الغولف” في إشارة إلى امتلاك ترامب منتجع غولف فاخر في ولاية فلوريدا.
ولكن من غير المؤكد أن يجدي ذلك نفعا مع ترامب. وقد يدفع القادة الديمقراطيون الضعاف في بلادهم ثمنا باهظا لهذا التقارب. وزار رئيس وزراء كندا جاستن ترودو ترامب في منتجع مار إيه لاجو في أواخر نوفمبر الماضي في محاولة من جانبه لإقناعه بالتراجع عن تهديده بفرض رسوم على المنتجات الكندية. فعل ترودو ذلك رغم اعتراض نائبته كريستيا فريلاند التي تطالب باتخاذ موقف صارم ضد ترامب، واستقالت من منصبها احتجاجا على لقاء ترودو معه. وكانت هذه الضربة الأخيرة لحكومة رئيس الوزراء الكندي الضعيفة فاضطر هو أيضا لإعلان استقالته في وقت سابق من الشهر الحالي.
في المقابل تبنت رئيسة المكسيك كلاوديا شاينباوم موقفا أكثر تشددا تجاه تهديدات ترامب وهددت بفرض رسوم مضادة على المنتجات الأميركية. في الوقت نفسه تتحرك شاينباوم وتعلن عن ضبط كميات ضخمة من مخدر فينتانيل. ويعني هذا أن إظهار القوة في العلن في مواجهة تهديدات ترامب، مع الاستجابة لمطالبه المقبولة يمكن أن يكون إستراتيجية سليمة، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين نظرا إلى أن ترامب نفسه شخص يصعب التنبؤ بقراراته.
وتبدو الصين أكثر ثقة في ردها على تهديدات ترامب. فقد تبنت إستراتيجية الانتقام الاستباقي ومددت الرسوم المفروضة على منتجات أميركية محددة وفرضت عقوبات على شركات أميركية.
وعلى عكس نظرائه في أوروبا وكندا، لا يخشى الرئيس الصيني شي جينبينغ من أيّ احتجاجات أو صدامات في الداخل. ويقول إيفان ميديروس المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما إن إستراتيجية الصين هي إستراتيجية الانتقام والتكيف وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه فإن أوروبا منقسمة. ففي اجتماع المنتدى الثلاثي في مدريد، شجع أنطوني جرادنر السفير الأميركي لدى الاتحاد الأوروبي والذي عمل في إدارة أوباما، الأوروبيين على وضع خطة لفرض رسوم انتقامية على المنتجات الأميركية.
ولكن هناك دول أوروبية أخرى تراهن على كسب رضا الإدارة الأميركية الجديدة من خلال التعهد بشراء الأسلحة والغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة.
لكن مناورات ترامب الجيوسياسية تثير مخاوف على نطاق مختلف، لأن وعده بإبرام اتفاق بشأن حرب أوكرانيا يثير ثلاثة أسئلة على الأقل بالنسبة إلى أوروبا:
أولا ما هي الخطوط الحمراء التي وضعها ترامب (إن وجدت) في ما يتصل ببوتين وأوكرانيا؟ وإذا تخلى ترامب عن أوكرانيا فهل ينتهي الأمر عند هذا الحد، أم أنه سيتخلى أيضا عن الالتزام الأمني الأميركي تجاه أوروبا؟ وإذا كانت الولايات المتحدة على استعداد للتنازل أو حتى التخلي عن السيادة الإقليمية لأوكرانيا، فهل يعني هذا أنها ستفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى دول صغيرة أخرى في أجزاء أخرى من العالم؟
في الوقت نفسه فإن حديث ترامب عن رغبته في الاستيلاء على غرينلاند وضم كندا إلى الولايات المتحدة، يهدد بتحويل الاعتداء على سيادة الدول إلى أمر مقبول، ويؤجج المخاوف من أن يفتح احتقار ترامب لسيادة الدول إلى تغييرات جذرية في القواعد الدولية.
وترى ليزلي فينجاموري أستاذة العلاقات الدولية في جامعة لندن أن هذا الأمر ينطوي أيضا على مخاطر بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فإن تم إضعاف القيود القانونية والمعيارية للسيادة، سيزداد الاعتماد على الردع وأيضا على مصداقية الردع، لمنع القوى الكبرى الأخرى من استخدام الإكراه أو القوة العسكرية لتغيير حدودها وهي مسألة خطرة في أيّ نزاع مع الصين وبخاصة بشأن تايوان.
وبالنسبة إلى تايوان هناك حالة عدم يقين وجودية. فهل يسعى ترامب إلى صفقة كبرى مع بكين تتضمن مقايضة سيادة تايوان بشيء آخر أقرب للمصالح الداخلية الأميركية؟ أم أنه سيعيد السياسة الأميركية إلى موقفها السابق الذي يعتمد على الغموض الإستراتيجي بشأن ما ستقوم به الولايات المتحدة في حال نشوب مواجهة بين الصين وتايوان؟
إن التحدي الذي يواجه قادة العالم هو كيفية اكتشاف نوايا ترامب. فقد يكون ترامب يخطط بشكل أساسي لاستمرار موقف أميركا الراهن بشأن العلاقات الدولية، وأنه يستخدم تكتيكات غير تقليدية لتحسين وصولها إلى الأسواق وإقامة تحالفات أقوى أو أكثر توازنا. في هذه الحالة قد يكون التقارب والدبلوماسية والزيارات والهدايا واتخاذ خطوات نحو الاستجابة لمطالبه من الخيارات الذكية للتعامل معه.
لكن إذا كان ترامب يريد حقيقة ضم كندا وغرينلاند ويعتزم التخلي عن تايوان وأوكرانيا في إطار مخطط أكبر لنظام دولي جديد، فسيكون على شركاء الولايات المتحدة وحلفائها تبني موقف أكثر إستراتيجية وأشد صرامة وأطول مدى في مواجهته.
ويعني هذا ضرورة قيام هذه الدول بتعزيز قدراتها العسكرية، بل وإيجاد بدائل للقوة والشراكة الأميركية إذا لزم الأمر. هذه الصيغة ستصبح أكثر أهمية بالنسبة إلى أوروبا وخاصة بالنسبة إلى التعامل مع الصين. ويمكن أن يكون تعميق العلاقات الأوروبية الصينية ردا عمليا على الولايات المتحدة التي تعتزم التخلي عن القارة الأوروبية. لكن هذا الخيار سيكون محفوفا بالمخاطر إذا كان ترامب يريد فقط من أوروبا الانحياز للقوة الأميركية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :