في العام 1990، سقطت ما كان يسمّى في الحرب اللبنانية "المنطقة الشرقية"، أي تلك التي لم يحتلّها الجيش السوري، والتي كانت تحت سيطرة الأحزاب المسيحية والجيش اللبناني. وفي العام 1992 عندما أجريت الانتخابات النيابية، في ظلّ الوصاية السورية، قاطع المسيحيون الانتخابات، فكانت خطوة كرّست خروج المسيحيين الأكثر تمثيلاً من السلطة.
الإحباط المسيحي وصحة التمثيل
خمسة عشر عاماً، عاش المكوّن المسيحي بغالبيته الساحقة إحباطاً جراء نفي قادته إلى الخارج أو سجنهم. فيما استمر نزيف هجرة الـ"وان واي تيكيت".
مذاك الوقت أصبحت يد الطوائف الأخرى طولى على الصحن المسيحي. والمسيحيون إلى اليوم يقاتلون لاستعادة نفوذهم، والمشاركة في الحكم بندية مع الطوائف الأخرى.
أكبر مثال على ذلك ما يحصل عند كل استحقاق رئاسي. القيادات الطائفية كافة والأحزاب الأخرى تتحكم بالاستحقاق والمسيحيون يبقون الحلقة الأضعف.
هذه المرة وبعد عرقلة انتخاب رئيس للجمهورية لسنتين وشهرين ونصف تقريباً، للأسباب نفسها، فرض اللاعبون الإقليميون والدوليون ولاسيما المملكة العربية السعودية، العائدة بقوة إلى لبنان بعد المتغيرات السورية، والولايات المتحدة الاميركية، انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون على معظم القوى السياسية اللبنانية. وثنائي أمل حزب الله كان بأصوات نوابه الكتلة التي ساهمت بوصول عون إلى الموقع الأول في الدولة.
الشيعة خارج السلطة؟
الثنائي الشيعي الذي اعتبر أنه عقد صفقة رئاسية تنسحب على سنين العهد الست، بدءاً من إعادة الرئيس نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة، لكونه الشخصية السنية التي يثق فيها والتي يرى أنه "ما بيغلط في الحسابات معها"، وجد نفسه بمواجهة تداعيات ما "اعتبره انقلاباً عليه لعزله أو تطويقه وإخراجه من دائرة القرار". حتى أنه كاد يرتكب الخطأ ذاته الذي ارتكبه المسيحيون في تسعينيات القرن الماضي.
بمعنى أوضح، كاد الثنائي يذهب بعيداً في مواقفه التصعيدية ضد تسمية نواف سلام لتشكيل الحكومة وتطيير نجيب ميقاتي. أولاً، بمحاولة حزب الله مقاطعة استشارات بعبدا من خلال طلب إرجاء موعد كتلته مع رئيس الجمهورية. وثانياً، من خلال مقاطعته الاستشارات النيابية غير الملزمة في مجلس النواب مع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، ومن ثم إرساله إشارات سلبية باحتمال مقاطعته الحكومة وعدم المشاركة فيها.
كاد كل هذا أن يؤدي إلى أن يعزل الشيعة أنفسهم عن المشاركة في الحكم، في حقبة قد تكون من الأهم في تاريخ إعادة بناء مقومات الدولة الجديدة، المتماهية مع الشرق الأوسط الجديد والمرحلة الجديدة التي تنتقل إليها المنطقة.
برّي يقود الطائفة
لو كان للطائفة المسيحية في زمن الوصاية السورية قيادة سياسية كقيادة الرئيس نبيه برّي، لربما كان المسيحيون مذاك الوقت إلى اليوم في مكان آخر على مستوى السلطة وتعزيز موقعهم في لبنان الطائف.
لأن للطائفة الشيعية قيادة كالرئيس نبيه برّي، فمن المؤكد أنها لن تعزل نفسها ولن يعزلها أحد.
تأقلم الرئيس برّي مع كلّ الأزمات. تحول من قائد ميليشيا خاضت حروباً عديدة داخل البيت الشيعي ومع الآخرين. تدرج في السياسة إلى أن أصبح المتحكم في اللعبة السياسية في البلد. لا يمكن لأي كان أن يتجاوزه أو يغلب حنكته، حتى لو كان مخطئاً.
الرئيس برّي "الأخ الأكبر" لحزب الله وزعيم الطائفة اليوم، بعدما فقدت قيادة حزب الله السيد حسن نصر الله، القائد الاستثنائي الذي كان يتقن تجاوز ألغام اللعبة الداخلية.
أدرك الرجل من موقعه أنه إذا ترك اللعبة "تفلت من يده"، سيضع طائفته عكس التيار الجديد في المنطقة. قطع الطريق على النواب الذين قالوا صراحة "بأنه يمكن تشكيل الحكومة من دون الثنائي، واختيار وزراء من الطائفة الشيعية من خارج عباءة الثنائي".
كما قطع برّي الطريق على الطامحين إلى عزل الشيعة. تلقف كرة النار وعرف كعادته كيف يتماشى مع اتجاه الريح، ليمنع المزيد من الخسائر والانكسار لطائفته.
براغماتية برّي
يتعاطى الرئيس برّي بمرونة وبراغماتية مع التطورات، بدليل قوله إن "البلد بدو يمشي". هذا الأمر يفرض تغيير الأدوات والآلية التي أدارت المرحلة السابقة، لمواكبة المرحلة المستقبلية.
يدرك أنه إذا لم يغير مقاربته في إدارة الحالة الشيعية المستجدة إثر الحرب المدمرة للطائفة، قبل أن تكون مدمرة لكل اللبنانيين، يصبح الشيعة كما كان المسيحيون في التسعينيات "خارج السياق، يسيرون عكس تيار التغيير العام". لكن شراكة الشيعة اليوم في الحكم لا يمكن أن تكون كما كانت في السابق، وتحديداً منذ التسعينيات إلى عشية 17 أيلول 2024.
على الثنائي أمل حزب الله أن يختار، إما أن يذهب موحداً لمواكبة المرحلة السياسية الجديدة، وإما أن تكون حركة أمل بقيادة برّي باتجاه، فيكون حزب الله باتجاه معاكس.
السؤال المهم: هل بمقدور حزب الله أن يغرد منفرداً، من دون رعاية برّي، بعدما أصبحت القيادة بعد السيد نصرالله "بضياع أو ربما غير حاسمة، وبعدما ضعف المحور وطوق عرابه الإيراني وسقط نظام الأسد الذي كان يحمي ظهر المقاومة".
سؤال مطروح بقوة في الوسط الشيعي اليوم.
الشيعة ونهائية الكيان
منذ فتح جبهة الإسناد، وبعد توالي الضربات القاتلة على صعيد القيادة وتدمير الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، بدأ نقاش جدي داخل الطائفة، أكان على مستوى المشايخ ولاسيما في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى أو على مستوى النخب. نقاش عنوانه: "موقع الطائفة الشيعية في لبنان اليوم".
يقول أحد المفكرين من النخب الذي يشارك في حلقات النقاش، "إننا نمر بمرحلة ولادة عصف فكري على مستوى الطائفة وعلى المستوى الاستراتيجي. تساؤلنا الأساسي، إلى متى نحمل على أكتافنا هموم الأمة، انطلاقاً من تقديم أنفسنا قرابين على مذبح القضية الفلسطينية منذ عقود؟
كفانا العناوين الكبرى، التي دفعنا بسببها أثماناً باهظة جداً. دفعنا دماً ودماراً وهلاكاً. خسرنا شبابنا وقياداتنا. أصبحنا منبوذين من الشركاء في الوطن".
ويتابع قوله: "على الرغم من الاحتضان الشعبي لنا في خلال الحرب والتهجير، إلا أننا قرأنا في عيون من استضافونا وسمعنا منهم كلاماً حملنا مسؤولية وذنب تهديد زوال لبنان، والخطر الوجودي على الكيان النهائي، بسبب قضية ليست لبنانية كيانية، صرف. والأخطر من كل ذلك، دفعنا ثمن وفائنا للقضية الفلسطينية، عداوات كثيرة في الداخل". واليوم بعد انتهاء الحرب ندفع الأثمان الأخطر بمحاولة البعض عزلنا وتطويقنا وإعادتنا عقوداً إلى الوراء، إلى زمن كان فيه الشيعة مستضعفون".
النخب الدينية والمدنية الشيعية تسأل، "لما لا تكون العودة كاملة لخطاب الإمام موسى الصدر لناحية تكريس لبنان وطناً نهائياً لأبنائه. ويعود اتجاهنا نحو الداخل ولا تكون وجهتنا الخارج أبداً".
الشيعة والحياد الإيجابي
إن ما يطرح داخل الطائفة الشيعية، يشبه ما كان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي طرحه منذ مدة، عندما دعا إلى الحياد الايجابي.
أحد المشاركين في نقاشات نخب الطائفة الشيعية يقول "نعم ما يطرح في حلقات النقاش بعد الحرب الأخيرة هو على هذا المستوى، وهو ما يشبه الحياد الإيجابي".
ويضيف "ما حصل في الحرب الأخيرة، ولاسيما في الجنوب لناحية تدمير قرى، ومحو معالمها، وتعرض الشيعة في كل فترة للتهجير والقتل، وتعذر إعادة الإعمار إلى الآن، بالإضافة إلى ما حصل في سوريا، وإسقاط نظام آل الاسد، خلق حالة من التخبط السياسي الضمني داخل الطائفة، وتزاحم سيناريوهات وأفكار وهواجس على المستقبل."
يرى البعض من تلك النخب، أن الطائفة اليوم على مفترق خطر. والاتجاه الذي يسلكه من يمثلها، واليوم هو ثنائي أمل حزب الله، إما يتسبب بعزل الطائفة، والدفع بها الى خارج دائرة القرار، أو تبقى شريكة في الحكم، إنما في لبنان الجديد.
فهل يركب الثنائي قطار التغيير، ويكون شريكاً في بناء دولة لكل اللبنانيين، من بينهم الشيعة؟
إحباط عشية الانتخابات
اللبنانيون الشيعة كما المسيحيون في تسعينيات القرن الماضي، محبطون، صامتون، ويتآكلهم الغضب.
يعيشون حالة من التخبط. تضج مجالسهم الخاصة بالعديد من الأسئلة. في مقدمها، "لماذا علينا أن ندفع من دماء أبنائنا وخسارة أرزاقنا وأرضنا منفردين؟ كفانا ما بذلناه للساحات والمحور ولاسيما للقضية الفلسطيينة".
وفي صالونات النخب سؤال أخطر: "هل هذه البيئة التي نمثلها وحددنا لها خياراتها طوال عقود، ستعود وتجدد ثقتها بنا في الانتخابات النيابية المقبلة في العام 2026؟ هل نضمن ما ستفرزه الساحة الشيعية من خيارات؟".
كي لا تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وكي يحصن الموقع الذي تقدم إليه الشيعة بعد الطائف، وأصبحوا المتحكمين باللعبة السياسية، يطرح البعض أن يكون المكون الشيعي سباقاً في تبني تطبيق اتفاق الطائف، كلّ الطائف، بدءا من قانون الانتخاب الذي ينص على الدوائر الموسعة على أساس المحافظة، للانطلاق منه إلى لبنان الدائرة الواحدة، طرح الرئيس برّي.
"هكذا يكون الثنائي قد تلطّى خلف الطائف من جهة، وصدّر أزمته إلى الطواف الأخرى ولاسيما الطوائف المسيحية من جهة أخرى. إذ يستبعد أن يقبل المسيحيون بقانون انتخابي تذوب فيه أصواتهم وتمثيلهم في أكثريات طائفية أخرى".
كما أن الثنائي لا يريد أن تفرز الانتخابات المقبلة أو أن تعين حكومات العهد، أكان في السلطة التنفيذية أو في الإدارة العامة، أشخاصاً شيعة مشاكسين له، يصفون الحسابات مع ثنائي تحكم بالشارع الشيعي، وعمل على إقصاء كلّ من غرد من خارج سربه.
الشيعة والتغيير
يدرك الرئيس نبيه برّي أنّ الحسابات اليوم تختلف عن المرحلة السابقة. كما يدرك أنه لا يمكن الرهان من الآن فصاعداً على أي عناصر قوة لطائفته، أكان في الإقليم أو على السلاح في الداخل.
والأهم أن الرئيس برّي يدرك أن التحكم باللعبة السياسية والاستقواء انتهى زمنهما. وبالتالي، يعمل على نقل طائفته إلى كنف دولة القانون والمؤسسات وجعلها شريكة في بناء البلد.
لكن هل سيواكب حزب الله تحول "الأخ الاكبر" ويلاقيه إلى نصف الطريق؟ أم أن توجسه من أنّ "خطاب الإقصاء الذي تعرض له ما بعد الحرب، سينسحب على سياسة الحكومة؟
السؤال الكبير الذي يطرح، بأي نفس سيدار الحكم سياسياً وإدارياً؟ هل سيكون المسار استفزازياً؟ هل يمكن الوثوق بمن انقلب على الاتفاق الذي بموجبه تم إيصال الرئيس جوزاف عون الى الرئاسة، وتمّ نقضه عند أول مفترق بتطيير الرئيس نجيب ميقاتي؟
تخوف يراه الثنائي مشروعاً. ولهذا يدرس خطواته بتأنٍّ، وإن كان يعلم ّأن قطار لبنان الجديد انطلق ولن ينتظر أحداً.
نسخ الرابط :