ما يميز خطاب الرئيس عون أنه جزء من تحولات إقليمية أكبر وجاء في سياق زلزال سياسي قلب التوازنات في الشرق الأوسط بدءا من حرب غزة ومرورا بانهيار نظام بشار الأسد.
بعد عقود من الأزمات السياسية والتدخلات الخارجية التي فرضت نفسها على لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، يشهد المشهد اللبناني انعطافة تاريخية مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية.
خطاب القسم للرئيس الجديد أظهر التزاما واضحا بإعادة تعريف مسار الدولة اللبنانية.. كلمات جريئة وواضحة مثل “احتكار الدولة للسلاح” و”إقرار اللامركزية الموسّعة،” عززت فكرة دخول لبنان مرحلة جديدة حيث يسود منطق الدولة فوق كل اعتبار.
تميّز خطاب الرئيس عون بشجاعة سياسية غير مسبوقة وتحول جذري في المفاهيم، حيث أكد رئيس الجمهورية ولأول مرة منذ اتفاق الطائف، بوضوح أن السلاح يجب أن يكون حكرا على الدولة اللبنانية، متجاوزا الإرث الطويل من المواربة في ما يتعلق بسلاح “المقاومة”، وأكد على مبدأ المداورة في المناصب الحكومية للفئة الأولى، قاطعا وعدا بإنهاء هيمنة الطوائف على المناصب الحيوية والمحصورة ضمن توازنات طائفية معقدة على مدى عقود طويلة.
ما يميز خطاب الرئيس عون ليس فقط النبرة الإصلاحية، بل كونه جزءا من تحولات إقليمية أكبر، فتحركاته جاءت في سياق زلزال سياسي قلب التوازنات في الشرق الأوسط، بدءا من حرب غزة مرورا بانهيار نظام بشار الأسد، وصولا إلى تراجع نفوذ إيران وأذرعها الإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله الذي تنازل عن بعض مكتسباته السياسية والعسكرية، وقبل اضطراريا بالانتخابات الرئاسية، تحت ضغط دولي وإقليمي مكثف، في نقطة تحوّل كبرى في تاريخ لبنان الحديث توجهه تدريجيا نحو استقلال قراره السياسي.
قد يشهد لبنان حقبة الجمهورية الثالثة في مرحلة سياسية جديدة محتملة في تاريخه، تنطوي على تحول جذري في النظام السياسي والإداري للبلاد وإعادة هيكلة الدولة الوطنية اللبنانية، لو أخذنا بالاعتبار أن الجمهورية الأولى جاءت بعد الاستقلال عن فرنسا واعتمدت على الميثاق الوطني غير المكتوب الذي قسّم السلطات بين الطوائف الرئيسية، بينما الجمهورية الثانية جاءت بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وشهدت أزمات سياسية متكررة، وتضخم نفوذ بعض الأطراف المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة، وتفشي الفساد، وتدهور الوضع الاقتصادي، ما يجعل الحديث عن “الجمهورية الثالثة” ممكنا، ليتم إصلاح عيوب الجمهوريتين السابقتين، والانتقال إلى نموذج سياسي يقوم على المواطنة بدلا من التقاسم الطائفي.
“الجمهورية الثالثة” تعبر عن طموح لبناني لتأسيس دولة حديثة تضع مصلحة الشعب اللبناني فوق أيّ اعتبار، وتُعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس شفافة وعادلة بعيدا عن الطائفية والمحسوبيات. فهل يصبح هذا الحلم واقعا؟ الإجابة تعتمد على مدى استعداد القوى السياسية والمجتمع اللبناني لتقديم التنازلات اللازمة من أجل مستقبل أفضل.
أمام الرئيس عون وحكومته المقبلة تحديات إعادة الإعمار، فالحرب الأخيرة خلّفت دمارا هائلا، في وقت تشهد به لبنان واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم. لذا، ستكون إعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي والمؤسسات المالية أولوية قصوى، وتصبح مسألة إعادة الإعمار محورا أساسيا يحتاج إلى موارد هائلة لا يمكن توفيرها دون دعم دولي وعربي، ومع تولّي القاضي نواف سلام رئاسة الحكومة ستكون هناك فرصة كبيرة لإصلاح القضاء ومحاربة الفساد، ستعيد ثقة اللبنانيين بالدولة لو توفّرت الإرادة السياسية الجماعية وانتهت التدخلات الطائفية والحزبية.
كشف خطاب الرئيس عون عن رغبة واضحة في تعزيز العلاقات العربية، خصوصا مع دول الخليج، مؤكدا على التزام لبنان ببناء شراكات دبلوماسية وتنموية تعزز استقراره. ويظهر الخليجيون استعدادهم لدعم لبنان في إعادة الإعمار، لكن بشرط واضح: تغيير السياسات القديمة التي استنزفت ثقة العالم بالقيادة اللبنانية. والسؤال الحاسم هنا: هل سيتعلّم اللبنانيون من الماضي ويتحدّون لإنقاذ بلادهم أم أن المصالح الضيقة ستعيد إنتاج الأزمات؟
بين الماضي والمستقبل يقف لبنان أمام مفترق تاريخي حاسم، وبانتخاب العماد جوزيف عون رئيسا، تلوح فرصة حقيقية للدخول في “الجمهورية الثالثة”، حيث يُمكن أن تصبح دولة القانون والمؤسسات واقعا ملموسا، ونجاح التحول يعتمد ليس فقط على إرادة القيادة، بل أيضا على وعي اللبنانيين بأهمية الانتماء لدولة تسع الجميع، بعيدا عن الطائفية والولاءات الخارجية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :