عهد جديد يتشكل في لبنان، من أبرز سماته انحسار نفوذ حزب الله وانفضاض الحلفاء من حوله، باستثناء حركة أمل حيث الرابط الطائفي، ويجد الحزب المدعوم من إيران نفسه مجبرا على مجاراة التحول لعدم قدرته على تحويل المسار لصالحه.
نجحت قوى المعارضة اللبنانية في اقتناص الفرصة وإحداث انقلاب سياسي بكل المقاييس، وهو ما ترجم في تمكنها من إيصال الدبلوماسي المخضرم نواف سلام إلى رئاسة الحكومة، مستفيدة في ذلك من انهيار التحالف الذي يقوده حزب الله.
ويمر لبنان اليوم بلحظة فارقة في تاريخه الحديث، يأمل من خلالها في أن يؤسس لعهد جديد، يقطع مع العهد السابق الذي طبعته الانتكاسات والخيبات، وآخرها الحرب التي زج به فيها على الرغم من إرادته مع إسرائيل في الثامن من أكتوبر 2023 والتي اتسع مداها في سبتمبر قبل أن يجري التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
وتعرض حزب الله لضربات قاصمة خلال تلك الحرب، أفقدت الحزب المدعوم من إيران توازنه ليس فقط عسكريا بل وسياسيا أيضا، وهو ما استثمرته المجموعة الدولية والإقليمية والقوى المعارضة في الداخل لإعادة تشكيل المشهد، بدءا بانتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون، مرورا بتكليف سلام بتشكيل حكومة جديدة.
وأفضت التحولات الطارئة في لبنان والمنطقة إلى انهيار دراماتيكي للتحالفات السياسية اللبنانية التي كانت قائمة خلال العقود الأخيرة، حيث أنه لم يعد هناك حديث عن تحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر، أو عن وفاق وتناغم بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، وهو ما اتضح بشكل جلي في انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الوزراء الجديد.
ورغم تأكيد رئيس الوزراء المكلف، بأنه “ليس من أهل الإقصاء بل من أهل الوحدة والشراكة الوطنية،” لكن موقفه لا يغير من واقع الحال الذي من أبرز سماته شعور الثنائي الشيعي الممثل في حزب الله وحركة أمل بالعزلة، التي من المرجع أن تتضاعف وطأتها مع انفضاض باقي القوى الحليفة من حولهما.
وقال رئيس الوزراء المكلف، بعد اجتماع عقده الثلاثاء، مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري في القصر الرئاسي ببعبدا “أشكر المواطنين على الثقة التي منحوني إياها لتولي المهمة الصعبة خدمة للبنان وما حدث دعوة للعمل من أجل تحقيق أحلام اللبنانيين.”
وأكد سلام على أنه “حان الوقت لبدء فصل جديد متجذر بالعدالة والأمن والتقدم والفرص ليكون لبنان بلد الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.”
وقال “جزء كبير من شعبنا لا تزال منازله مدمرة كما مؤسساته وعلينا إعادة بناء القرى في البقاع والجنوب وبيروت، وإعادة الإعمار ليست مجرد وعد إنما التزام.”
ودعا سلام إلى “العمل على بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، وعلى الحكومة وضع برنامج متكامل لبناء اقتصاد منتج وعلى تأمين فرص عمل للأجيال.”
ولفت رئيس الوزراء اللبناني المكلف إلى أهمية “تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة،” وقال”آن الأوان لـ‘نفض‘ الإدارة التي قامت على الزبائنية وعلينا تحقيق العدالة لضحايا انفجار المرفأ وإنصاف المودعين الذين خسروا أموالهم.”
وشدد سلام “لست من أهل الإقصاء بل من أهل الوحدة ولا من أهل الاستبعاد بل من أهل الشراكة الوطنية ويداي ممدودتان للجميع من أجل البدء بالإصلاح كي لا يشعر أيّ مواطن بالتهميش.”
وكان رئيس الجمهورية اللبنانية كلف، الاثنين، نواف سلام بتشكيل حكومة جديدة، بعد انتهاء الاستشارات النيابية وحصوله على 84 صوتا من أصوات النواب البالغ عددهم 128 نائبا.
وقد امتنع حزب الله وحليفته حركة أمل عن التصويت، فيما اعتبر الحزب أن وصول سلام إلى رئاسة الحكومة ينطوي على مسار يستهدف إقصاءه، وإن أعرب عن رضوخه للأمر الواقع.
ويرى متابعون أن حزب الله لا يملك حاليا سوى مجاراة الأمور، حيث أن أي تعنت منه ليس في صالحه، كما هو الحال بالنسبة إلى حركة أمل.
ومن المقرر أن تنطلق الاستشارات لتشكيل الحكومة الجديدة الأربعاء والخميس، ويأمل اللبنانيون في أن تنتهي عملية تأليف الحكومة في وقت وجيز بالنظر إلى التحديات التي تنتظر لبنان لعل أهمها إعمار ما دمرته الحرب، ووضع البلاد على سكة الإصلاح المعطل.
وأبدى المجتمع الدولي ارتياحا للمسار الجاري في لبنان، وأكدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على استعدادهم للتعاون مع الحكومة الجديدة برئاسة سلام.
وهنأت سفيرة الولايات المتّحدة لدى لبنان ليزا جونسون، رئيس الحكومة المكلف، مشددة على حرص بلادها على “العمل معه لتعزيز الشراكة بين بلدينا وتعزيز أولوياتنا المشتركة لصالح الشعب اللبناني.”
ورحب زير الدولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية البريطانية هاميش فالكون، بتعيين سلام كرئيس وزراء لبنان المكلف، آملاً في أن “يتبع ذلك تشكيل سريع لحكومة جديدة.”
وقال فالكون “أتطلع إلى العمل مع رئيس الوزراء المكلف نواف سلام ودعم الإصلاحات لتحقيق الاستقرار في لبنان.”
وسلام (71 عاما) هو محام وقاض شغل منصب سفير لبنان لدى الأمم المتحدة من عام 2007 إلى 2017. وانضم سلام إلى محكمة العدل الدولية، ومقرها لاهاي، في عام 2018 وأصبح رئيسا لها في السادس من فبراير 2024 لمدة ثلاث سنوات، وهو أول قاض لبناني يشغل هذا المنصب.
وينحدر سلام من عائلة لها تاريخ سياسي حافل في لبنان. فقد شغل عمه صائب سلام منصب رئيس الوزراء في لبنان أربع مرات قبل الحرب الأهلية التي اندلعت بين عامي 1975 و1990. كما شغل ابن عمه تمام سلام منصب رئيس وزراء لبنان بين عامي 2014 و2016.
ويُعرف سلام بدعواته المتكررة إلى الإصلاح في لبنان، وبدفاعه عن سيادة الدولة اللبنانية، مع تأكيده على حصر السلاح بيد الأجهزة الأمنية والعسكرية. ويمتلك علاقات دولية وعربية يعول عليها الكثيرون لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية والسياسية.
وعبر السفير السعودي لدى لبنان وليد بخاري عن “الارتياح العام بإنجاز الاستحقاق الرئاسي والاستشارات النيابية مما يسهم في تعزيز الوحدة بين اللبنانيين، والسير بالبلاد نحو الأمام لتعزيز نهضة لبنان على الصعد الاقتصادية والإنمائية، والبدء بورشة الإصلاح واستعادة ثقة المجتمع العربي والدولي.”
وأكّد، خلال زيارته مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام، الثلاثاء،”وقوف السعودية الدائم إلى جانب لبنان وشعبه.”
ويتوقع أن تلعب السعودية دورا رئيسيا في دعم لبنان خلال هذه المرحلة، بعد سنوات من الانكفاء على خلفية موقفها الرافض لسيطرة حزب الله على سلطة القرار في البلد. وكانت الرياض طرفا رئيسيا في الحراك الدبلوماسي الذي برز في الأيام الأخيرة والذي أفرز انتخاب جوزيف عون لرئاسة الجمهورية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :