أصغيت بدقة إلى خطاب الرئيس اللبناني الجديد العماد جوزاف عون، بعد فراغ مديد تعايشنا معه، وأطربني الحلم السياسي المستحيل، لا بل سرقني الخطاب ودعاني لأن أسكر قليلاً وآمل كثيراً إلى أن انتابتني تساؤلات متتابعة:
هل أن خطاب القسم الدستوري له علاقة بلبنان الراهن؟ الأحلام طالقة من المحاسبة. فهل هذا الكلام ابن أحلام أو ما فوق الواقع.. ثم تساءلت: ألسنا نحن في لبنان؟ ألا نعرف أن لبنان يعف عن الكلام؟ ثم: سألت أحوالي في لبنان: هل هذا البيان يُناسب لبنان، بحلّته الطوائفية، وبتاريخه المصاب بعاهات متأصلة جداً، وبمقامات تؤمن علناً، بأن لبنان، هذا هو، ولا شفاء له، ولا شفاء منه.
الخطاب جليلٌ جداً. جميلٌ جداً.. سلمت أيادي من ساهم في امتطاء اللغة والمنطق وحياكة عباراته. إنما، يصعب تصديق هذه الأحلام. يا إلهي. نحن في لبنان. ولبنان ليس فينا. هو ملك عصابات القوى السياسية والطائفية المعروضة للشراء والبيع، من أي آتٍ كان. “لبنان الواحد”، متعدد. متخبط. متحاقد. ثم، بعد عمر سياسي، يجب ألا نخجل من تسمية الأمور بأسمائها. لبنان المعطوب، من بداياته، ازداد أعطاباً. كان التكاذب الطائفي، رحوماً جداً. أما التكالب المذهبي، فقد بلغ قاع القعر السياسي.
لندخل في التفاصيل عبر أسئلة غير بريئة أبداً، وفجة حقاً:
هل يستعيد القضاء اللبناني نصابه تأسيساً على نصوص، لا على نفوس؟ إذا كان ذلك صعباً، فهذا طبيعي. لأن القضاء في لبنان قضى على نفسه وعاث بنصوصه وباع ضمائره، والتزم الطاعة “المثالية”. فتم تغييب كل الجرائم ومنعها من الحضور أو الإحضار.
لن أسرد وقائع الخيانات الواضحة للأحداث؟ أنسونا جريمة انفجار مرفأ بيروت. أنسونا احتلال الشواطئ. أقصوا قضاة يقاضون. ترسملوا بقضاة يتقاضون. امرأة قيصر عندنا عاهرة، لا تُعطي قبل أن تأخذ.. تجارة فاجرة.. هل خطاب القسم الرئاسي يتجرأ على المستحيل القضائي. القضاء ثم القضاء عليه.. ولا قيامة، من زمان. هذا هو لبنان.
نعبر إلى الوزارات، وزارة وزارة.. “العمى”. ولا وزارة تستحق اسمها أو لقبها. هي مغاور. أرساها علي بابا الطائفي والمذهبي، والأربعين ألف حرامي.. هل هذا اتهام أو هو واقعي: أين الكهرباء؟ أين الليرة اللبنانية؟ أين المستشفيات الحكومية يا وزارة الصحة؟ أين التعليم الجامعي والمدرسي الرسمي. يا حرام. الله يرحم رؤساء الجامعة اللبنانية ماضياً.. نحن اليوم نُنفق من الرصيد العلمي للجامعة اللبنانية.
لا عدالة.. لا علم.. ثم: الكارثة المستدامة. يقولون إن المصارف ثم المصارف.. هذه لم تكن مصارف. هذه كانت شركات شابكة مع زعامات سياسية، طائفية، دينية. غريب جداً. لم ينجح إضراب. حمت عصابات السلطة المصارف.. والغريب، ان الذين سرقت أموالهم، علناً، وجهاراً نهاراً، إما يئسوا وإما ارتهنوا، كالعادة.. ولو! ولو! ولوا.. تذكّروا، قبل أن تنسوا، أن زعماء طوائف المال أو مال الطوائف الذين نصّبوا، منذ عقود، حاكم البنك المركزي، زعيماً مالياً وسياسياً سخياً.. نجح في تحويل الكثيرين من “أصحاب السياسة” إلى خدم عنده.
غريب. اللبناني، يحب البهورة فقط.
ماذا بعد؟
الإفلاسُ عقيدةٌ وسلوكٌ. قبلنا الإفلاس.. ثم قبلنا بالصمت. حصتنا: إنسَ.
من ارتكب هذه المجازر؟
هؤلاء. هؤلاء، ومن كانوا قبلهم.
يا صاحب الفخامة؛
لقد أملى “الهمس” على النواب إسماً لرئاسة الحكومة ستلتزم أنت به حرفاً حرفاً. ثم ستتألف حكومة، برئاسة “رئيس حكومة” نعرفه ومن سيأتي معه من الوزراء، حلةً ونسباً. أنت تعرفهم جيداً، هؤلاء عدة الإصلاح. يا حيف! من يُصدّق أن مثل هؤلاء سيعتلون سفينة الإنقاذ؟ هؤلاء قراصنة مال وعقارات وشيكات واعتادوا الوقوف على أعتاب السفارات.
ثم، إنسَ، أنت يا صاحب الفخامة، لم تأتِ بك أصواتهم. هؤلاء ألزمتهم دول عظمى بأن يخضعوا، ففعلوا. ليس كرمالك، بل “أمراً وطاعة سيدي”.
لبنان، يا صاحب الفخامة مفلس. جيشك يجوع. ثم إن المساعدات لن تكون مجانية. لا مجانية في السياسة. القاعدة، “خذ واعطِ”. يريدون. وإرادتهم ستكون نافذة. لا يُعوِّل الغريب الغربي على مجلس مسوِّس. يُستثنى من ذلك، قلة قليلة، أغلب الظن أنهم لا ينتمون للمدرسة السياسية الطائفية.
استحالات كبيرة: استرداد الشواطئ. منع التعديات على الأملاك. إعادة الثقة بالمستشفيات الحكومية. مستحيل ذلك. تطهير المرفأ من.. والمعابر من.. إعادة الكهرباء لوزارة الطاقة لا لقادة الموتورات. هذه دولة موتورات ضد دولة الضوء. العتمة حتمية.
قد يُقرّر الرئيس الجديد، أن يحاسب.. لا تحلموا. المحاسبة مستحيلة. لأن فتح الدفاتر، يكشف الطاقم السياسي برمته. الدفاتر العقارية ممسوكة. محسوبة. متفهمة لمساحات تم الاستيلاء عليها وتسجيلها بأسماء الأحفاد والأبناء.
لن أستطرد في التفاصيل.
سيدي الرئيس؛
هذه ليست دولة. رواد السياسة النظيفة كتبوا عن لبنان بأنه يُطبق أسلوب “ماريكا” في شارع المتنبي، قرب ساحة الشهداء.
هل تغيّروا؟
أبداً. هذا هو لبنان. الوزارة القادمة، سيؤلفها هؤلاء، وأنت يا صاحب الفخامة، ما هو دورك مع هؤلاء؟
أما السياسة الخارجية، فموزعة طائفياً. لدينا غرب معنا. وعرب معنا.. وشعب مع كل ريح يروح.
أرى في أحلام اليقظة، أنك تستطيع الكثير ولن.. تريد الكثير ولن.. تحلم بالكثير ولن..
أحسب أن أجندتك ممتلئة بالرغبات والأماني.. ولكن الفعل أسير من لا يُعوّل عليهم أبداً.
أتمنى أن أكتب عكس ما كتبته اليوم. مع أن تشاؤمي يغلبني، لأنني ومنذ زمن بعيد، وأنا أحاول أن أكون لبنانياً، وفشلت. يريدونني في طائفتي. وأنا لا طائفة أنتمي إليها.
ديني لي وليس من أحد ولا علاقة لأحد به.
سيدي، صاحب الفخامة؛
أتمنى أن يكون كلامي هذا كله غير حقيقي، كي يُتاحَ لي مرةً، أن أنشد “كلنا للوطن” بحرارة الانتماء.
أحلم.. وسأظل كذلك.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :