التغيير الذي حصل في سورية حدث من الوزن الثقيل، وستكون له تداعيات واسعة في عموم المحيط العربي، وما هو أبعد، فسورية تظلّ المرآة العاكسة لكلّ تموّجات المنطقة واتجاهاتها المستقبلية، ومن يضع يده على الشام وضع يده على قلب وعقل العالم العربي، والشرق الإسلامي عامّة، فهناك ولدت أولى التجمّعات الحضرية، وتشكَّل مفهوم المدينة، ونشأت واستوطنت أغلب الرسالات الروحية، وهناك تركّزت الهجمات الصليبية على الشرق قبل أن يتم كسرها بتعاضد دمشق والقاهرة، وهناك نضجت الفكرة الإصلاحية الإسلامية، ومن بعدها تبلورت الرابطة العربية، وبدأ صعود موجة العساكر العرب وحركة الانقلابات والانقلابات المضادّة إثر ولادة المشروع الصهيوني في أواخر أربعينيّات القرن الماضي.
في بلاد الشام تتزاحم الفِكَر والتيّارات والمدارس، وتولد المشاريع أو تموت، تنضج أو تذبل، وليس مبالغة القول إن تاريخ العرب الحديث يتكثّف في الشام وما حولها، ومن أراد أن يعرف إلى أين يتّجه العرب فعليه أن يعرف الوجهة التي تتّخذها دمشق. وقد أيقظت "الدولة العميقة" في واشنطن، وريثة الإمبرياليات الأوروبية المتمرّسة بلعبة الأمم، دونالد ترامب من سباته حين صرّح بأن سورية "بلد صغير ولا يهمّنا أمره"، ودليل ذلك تتالي زيارات وتصريحات المسؤولين الأميركيين بشّأن سورية لاحقاً (!).
وإذا تجاوزنا هذه المقدّمات العامّة وركّزنا التشخيص حول الخيارات التي ستسلكها القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في التعاطي مع الحدث السوري الذي فاجأ الجميع، فإنه يمكن تصنيف هذه المواقف، بشيء من التلخيص، في ثلاثة خطوط رئيسة تتوزّع ما بين المساندة والإلغاء والاحتواء وما بينها من تفريعات. فإذا استثنينا الدول التي احتضنت الثورة السورية منذ البداية مثل تركيا وقطر، واستمرت في نهجها، مع محاولة تدارك الثغرات السابقة في التعامل مع ثورات الربيع العربي المغدور بها، فإن بقيّة المواقف الدولية والإقليمية تراوح بين رفض الواقع الجديد، مع ما يتبع ذلك من حملات سياسية وإعلامية مُشيطِنة للثورة والثوار، وخيار مسايرة الموجة والعمل على احتوائها وكبح جماحها تدريجياً بالأدوات الناعمة، والغالب أن ما سيرجّح كفّة أيّ من الخيارات الثلاثة التي ذكرناها أعلاه، هو ميزان القوى في أرض الواقع، واتجاه الأحداث العامّة في هذا البلد، وما إذا كان فريق الحكم الجديد قادراً على ضبط الوضع العام والتحكّم في وتيرة الأحداث، أم أن الأمور ستكون أكبر من الفاعلين الجدد، فالكلّ يراقب الآن تطوّرات المشهد السوري ليثبت خياراته أو يعدّلها لاحقاً وفق اتجاهات الأحداث وموازين القوى.
صُدم الأميركيون من انهيار النظام بتلك السرعة، ومن اقتحام قوة راديكالية دمشق ما زال قادتها مصنّفين في قوائم الإرهاب، ما لم يعطهم فسحةً من الوقت للدخول إلى الميدان وتوجيه الأحداث، وهذا ما يُفسّر أنهم يتعاملون بقدر كبير من الحذر مع التطوّرات الجارية، ولك أن تقول هنا إنهم في طور جسّ النبض من دون إرخاء الحبل أو شدّه نهائياً. وما بدا واضحاً إلى حدّ الآن، من خلال تجميد سلاح العقوبات ستّة أشهر فقط، هو التلويح بسياسة العصا والجزرة مع الحكّام الجدد، وهي مدّة كافية لاختبار سلوك دمشق، وفي أيّ وجهة ستسير، فكلّ ما يعنيهم الآن هو انتزاع سورية من المحور الروسي الإيراني، وفكّ علاقتها بالمقاومة في لبنان وفلسطين، وما زاد على ذلك من حديث عن الديمقراطية والمشاركة والأقلّيات والمرأة وغيرها، فهي محسّنات سياسية، يمكن أن تتقدّم في الخطاب إذا اتسعت هوة الخلاف مع حكّام سورية الجدد، ويمكنها أن تتأخّر إذا وجدوا قدراً من الاستجابة والتكيّف من دمشق، والأرجح أن الإدارة الجديدة مع ترامب ستنظر لسورية واحداً من ملفّات التفاوض مع أنقرة، إلى جانب ملفّات إقليمية أخرى.
تحلّى الروس بشيء من المرونة، وسارعوا بالقفز من سفينة بشّار الأسد الغارقة، واختاروا عدم معاندة الأحداث، أو وضع أنفسهم في صفّ المهزومين، لا سيّما أن ما يشغلهم هو الحفاظ على قاعدتيهم العسكريتين، في حميميم (الجوية)، وطرطوس (البحرية)، وألا ينقطع حبل الوصل مع فريق الحكم الجديد في سورية. أمّا طهران فقد وجدت صعوبةً كبيرةً في التكيّف مع الوضع الجديد، وصدرت عنها خطابات وتحذيرات تفيد بأنّها قد خسرت كثيراً بسقوط نظام بشّار الأسد، رغم وجود اتجاه من داخلها يدعو إلى التحلّي بالبراغماتية والتفكير في المستقبل، بدل الانحباس في الماضي.
أمّا الأوروبيون فهم منزعجون من الوضع الجديد، ومن ذلك الضيق بالقوى التي أسقطت بشّار، ومن انحسار نفوذهم في المشرق العربي مع صعود الإسلاميين، ولكنّهم يبتلعون غصّتهم ويتوارون خلف المجاملات الدبلوماسية وتوالي الزيارات الاستطلاعية، وتتركّز أولويتهم العامّة (على نحو ما أفصحت عنه زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا) في جانبَين اثنَين، دعم المكوّن الكردي رصيداً احتياطياً للتحكّم في مسارات سورية وما حولها، مع ميل الفرنسيين أكثر نحو تصدّر "حماية المسيحيين"، والمفارقة العجيبة أن فرنسا التي تتحدّث بلغة الجمهورية المُجرَّدة في الداخل الفرنسي، ولا تعترف بأيّ هُويَّات جزئية ما دون الجمهورية، لا ترى في منطقتنا سوى تقسيمات المسلمين والمسيحيين والسُنّة والشيعة والدروز والعلويين والعرب والكرد والبربر وغيرها، يضاف إلى ذلك ميل الأوروبيين إلى كبح التوجّهات الإسلامية في الدولة والاجتماع والثقافة، في إطار توجّه استراتيجي صامت منذ نهاية الحرب الباردة، يقوم على اعتبار وجود إسلام مسيّس مهما كان شكله (ولونه) في الحدود الجنوبية للقارّة يمثّل خطراً عليها. وقد ترسّخت هذه الرؤية أكثر مع صعود الحالة الإسلامية منذ الثورة الإيرانية، ثمّ صعود التيّارات اليمينية في كثير من العواصم الأوروبية، التي انخرطت في إعادة بناء الهُويَّة القومية والقارّية عامّة، في مقابل الآخر الإسلامي، ولا غرو أن تجد أوروبا المؤدلجة صعوبةً كبيرةً في التعايش مع إسلام حاكم، ولا فرق في ذلك عندها بين نموذج طالبان ونموذج أردوغان.
أمّا الدول العربية، فقد اختلط عندها الرفض بهواجس خوف مضاعف، خوف من عودة "الربيع العربي" المغدور به، وخوف من عودة الإسلاميين، الذين كان يُظنّ أنهم قد قُبِروا تحت الركام إلى غير رجعة مع وأد الثورات العربية بالانقلابات والحروب الأهلية، وقد عكس اجتماعُ العقبة في الأردن، الذي انعقد على عجل وبعد أيّام قليلة من سقوط نظام بشّار الأسد، حالةَ الارتياب العربي، مع الملاحظ هنا أن مواقف القاهرة وأبوظبي وبغداد والجزائر وتونس تظل الأكثر حدّةً ورفضاً للواقع الجديد، وقد زادت القاهرة وتونس على ذلك بإطلاق العنان لحمّى إعلامية في الفضائيات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة، تتوحّد تقريباً في سردية المؤامرة، ورمي القوى السورية الجديدة بالشناعات كلّها من إرهاب وخيانة وتآمر وغيره.
أمّا إسرائيل فيختلط عندها الشعور بالنصر بمرارة الهزيمة، لا سيّما أنها فزعت من وجود قوة إسلامية ذات خلفية جذرية في حدودها الجنوبية الغربية، وهي تتحسّب من حلول ما تعتبره محور أنقرة دمشق، بديلاً من محور طهران دمشق، أو ما تسمّيه صعود جبهة إسلام سنّي، بديلاً من الإسلام الشيعي، وهي التي كانت تراهن على بقاء الأسد في دمشق ضعيفاً ومنزوع المخالب والأنياب، في ظلّ كيان كردي شرق الفرات، يمكن أن يستخدم لاحقاً مخلباً في وجه دمشق وأنقرة، وجيب درزي موالٍ لها عند حدودها، وكان الأميركيون يسيرون في الركب ذاته تقريباً، فما هو جيّد لتلّ أبيب جيّد لواشنطن.
الواضح حتى الآن أن اصطفافات "الربيع العربي" لم تتغيّر سوى على صعيد الإخراج، فالدول التي دعمت الموجة الأولى للثورات العربية سارعت إلى دعم الثورة السورية من دون تردّد، والدول التي تحفّظت ورفضت ما زالت هي نفسها تقريباً، مع أن القدر الواضح إلى حدّ الآن هو غلبة منسوب التوجّس والخوف والامتعاض مع محاولة مسايرة الموجة، وتجنّب مواجهة العاصفة، وتقليل الخسائر ما أمكن، على خلفية الاحتواء وتوجيه القاطرة السورية نحو الوجهة المرغوب فيها، وإذا وجدت هذه الدول فرصةً في الانقضاض على التجربة وقلب ظهر المجنّ، فلن تتردّد في ذلك.
ستظلّ هذه التكتيكات السياسية تتزاحم على سورية في مرحلة طافية بالصراعات والتقلّبات، وما سيحدّد فعلاً رجحان أيّ من الخيارات هو ميزان القوى في أرض الواقع، فإذا صمدت التجربة في مواجهة هذه العواصف الهوجاء سيتراجع تدريجياً منسوب الرفض، ويضطر الجميع للتكيّف والبحث عن مصالحهم ومواقعهم في المشهد الجديد، بوابةً رئيسةً لضبط إيقاع المشرق العربي وما حوله، أمّا إذا تعثّرت القاطرة (لا قدّر الله) فستكثر المناورات والمُكايدات، ويستعمل المال والإعلام والسلاح، وكلّ شيء، كما جرى مع تجارب "الربيع العربي" السابقة. بيد أن ما يعطي شيئاً من الخصوصية والحصانة للتجربة السورية، مقارنةً بتجارب "الربيع العربي" السابقة، هو انهيار الدولة العميقة بجيشها وبوليسها ومخابراتها، بما يحدّ من مفعول الثورة المضادّة، ويجعل إمكانيات الاختراق أكثر صعوبة، فضلاً عن وجود إسناد تركي قوي، ومرافقة لصيقة لملفّ باتت أنقرة تعتبره جزءاً من أمنها القومي.
هذه المعطيات كلّها التي ذكرناها أعلاه، تشير إلى حجم التحدّيات التي تواجه (وستواجه) سورية في المستقبل القريب، وهي تحدّيات تفرض درجةً عُليا من الحيطة والمهارة والصبر في إدارة هذه الصراعات الساخنة والباردة وكثرة المتدخلين واللاعبين في المشهد السوري المحاط برؤوس ثعابين كثيرة. طبعاً سيسمع السوريون كثيراً من المديح والإطراء لثورتهم المجيدة، وعليهم أن يقابلوا هذه المجاملات بالمجاملات، ومبادلة الكلام بالكلام، والأكثر أهميةً من ذلك أن يراهنوا على الأفعال والطريقة التي ستتصرّف بها الدول، أكثر من المراهنة على التصريحات والموعودات. سبق أن تلقى التونسيون كثيراً من المديح والثناء على ثورة البوعزيري، كما تلقّى المصريون من بعدهم إطراءً على ثورة 25 يناير (2011)، وشجاعة شبابهم ووعيهم الثاقب، إلى درجة أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تمنّى أن يكون واحداً من شباب مصر المرابطين في ميدان التحرير، ولكن حينما تحرّكت الدبابات والعربات العسكرية لنسف صناديق الاقتراع، ولتخريب الديمقراطيات الوليدة في دول "الربيع العربي"، لم تجد بواكيَ لها في العواصم الغربية والشرقية، بل قوبلت ببهجة واحتفالات في عواصم الاستبداد العربي. لذلك على السوريين أن يعوّلوا على أنفسهم، ويحافظوا على حزامهم الشعبي الداعم للثورة أولاً، ثمّ على دعم الأصدقاء الموثوقين، وقبل ذلك (وبعده) تحصين تجربتهم بالمخالب والأنياب اللازمة، التي تتيح لها الدفاع عن نفسها، مع العمل على الانفتاح والتعاون مع الجميع وفق الأولويات وقوانين الجغرافيا السياسية. فليس من مصلحة السوريين الانخراط في سياسة المحاور، أو تسليم رقبتهم لأيّ قوة دولية مهما كانت مغرياتها، ولا خوض حروب بالنيابة عن أحد.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :