الفنون في 2024... عام الفوضى والجمال والألم

الفنون في 2024... عام الفوضى والجمال والألم

 

Telegram

 

كان عام 2024 مليئاً بالأحداث الفنية التي جسدت تقلبات وتحديات عالمنا اليوم. كان هناك عديد من الأحداث التي امتزج فيها الواقع بالعبث، والعادي بالاستثنائي. ومع ذلك، بقيت القضية الفلسطينية محوراً بارزاً في المشهد الفني العالمي، ومحركة للوجدان الجماعي للفنانين والناشطين. في ذلك العام، تصاعدت وتيرة الأنشطة الفنية الداعمة لفلسطين، فأطلق الفنانون مبادرات متنوعة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني والتعبير عن مواقفهم الرافضة للرقابة والهيمنة المؤسسية. عشرات الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات والانسحابات كانت شاهدة على عمق الأزمة التي يواجهها الفنانون في محاولة الحفاظ على نزاهة أعمالهم واستقلاليتها.

وقد جاءت هذه التحركات بوصفها رد فعل على انخراط بعض المؤسسات الفنية الكبرى مع هيئات وأفراد لهم صلات مباشرة بدولة الاحتلال الإسرائيلي، ما دفع العديد من الفنانين إلى الانسحاب من الفعاليات والمعارض، معربين عن رفضهم للتطبيع بأي شكل من الأشكال. هذه المواقف لم تكن مجرد احتجاجات عابرة، بل كانت جزءاً من حركة أوسع تهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين الفن والسلطة، وتحقيق الاستقلالية الإبداعية التي ترفض أن تُختزل في خدمة مصالح سياسية.

عام 2024، رغم تعقيداته، قدم نموذجاً لإمكانية الفن أن يكون سلاحاً ثقافياً مؤثراً، يتجاوز الحدود والجدران، ليحمل صوت الحق والحرية. كانت فلسطين وما تمثله من معانٍ للعدالة والصمود هي البوصلة التي وجهت الكثير من الإبداعات، لتؤكد أن الفن ليس مجرد انعكاس للواقع، بل أداة لتغييره.

كشف هذا التضامن الواسع للمجتمع الفني في أنحاء العالم مع فلسطين عن الجانب القبيح والمتناقض في عالم الفن، وقد تجسد هذا التناقض أثناء الحفل السنوي الذي ينظمه متحف متروبوليتان في نيويورك لجمع التبرعات. فبينما كان نجوم المجتمع الأميركي يتألقون أمام عدسات الكاميرات داخل المتحف، علت أصوات المتظاهرين في الشوارع القريبة تضامناً مع فلسطين. التناقض كان واضحاً بين البريق والاحتفال داخل القاعة الفاخرة، وبين المسيرات الحاشدة التي اجتاحت شوارع مانهاتن، حيث رفع المشاركون صوراً مؤثرة للأطفال الفلسطينيين الذين استشهدوا نتيجة قصف الاحتلال على قطاع غزة.

كان عام 2024 مثيراً كذلك في ما يخص الممارسات الفنية. في هولندا، على سبيل المثال، أصبح عامل مصاعد نجماً غير متوقع على وسائل التواصل الاجتماعي عندما ألقى عملاً فنياً في القمامة عن طريق الخطأ. العمل الذي بدا كعلبتي بيرة فارغتين، كان رمزاً "لذكريات جميلة" للفنان الفرنسي ألكسندر لافيه. الخبر الطريف هنا أن العمل الفني نجا من الإعدام وعاد إلى منصته بعد عملية إنقاذ درامية من كيس القمامة.

كان عاماً مليئاً بالدهشة والغرابة، فمن منا كان يعتقد أن موزة ملصقة على جدار يمكن أن تُباع بملايين الدولارات قبل أن تظهر موزة الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان التي بيعت منها هذا العام نسخة جديدة مقابل 6.2 ملايين دولار؟ المبلغ الذي بيعت به النسخة الجديدة من موزة كاتيلان يزيد أربعة أضعاف عن الثمن الذي دفع في نسختيها السابقتين عام 2019. بيعت النسخة الجديدة إلى الملياردير الصيني جاستن صن، ولكي تكتمل أسباب الدهشة، فقد أكل الملياردير الصيني موزته الثمينة مباشرة أمام الصحافة قائلاً: "أنا الآن جزء من تاريخ الفن".

في 2024، حوّل نُشطاء البيئة المتاحف إلى ساحات معارك، واستهدفوا لوحات شهيرة مثل "زهور عباد الشمس" لفان غوخ، وحكم على بعض المحتجين بالسجن بتهم التخريب. هذه المواجهات أجبرت المتاحف على الاستعداد الدائم بتكثيف الحضور الأمني، مثل المتحف الوطني في لندن الذي شبهه بعضهم بالمطارات، بعدما اضطر إلى تشديد إجراءاته الأمنية.

في عام 2024 تسلل الذكاء الاصطناعي إلى الفن والأدب على نحو مثير ومخادع. ففي مفارقة غريبة، اعترفت الكاتبة اليابانية ري كودان باستخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة روايتها الفائزة بجائزة مرموقة. لكن المُفارقة الأكثر إثارة، جاءت من المصور البريطاني مايلز أستري الذي خدع لجنة التحكيم ليُثبت أن البشر لا يزالون قادرين على التفوق. تقدم أستري بصورة فوتوغرافية لطائر الفلامنغو إلى مسابقة للصور المولدة بالذكاء الاصطناعي، وفاز عمله بالجائزة الثالثة. في بريطانيا أيضاً، استيقظ سكان ويلز على منحوتة ضخمة لرجل وردي ضاحك تقف أمام إحدى المدارس. أثارت المنحوتة التي أبدعها الفنان الصيني يو مينجون مزيجاً من الفزع والإعجاب. فبينما وجدها بعضهم غريبة ومزعجة، أُغرِم بها الأطفال الذين تسابقوا لالتقاط الصور أمامها. في 2024، أسدل الستار على لوحات رسمية جديدة لملك بريطانيا الجديد تشارلز الثالث وكاثرين أميرة ويلز، وهو أمر مُعتاد، غير أن الهجوم على هذه اللوحات جعلها في بؤرة الاهتمام حول العالم. أثارت هذه الصور عاصفة من الانتقادات عند نشرها، فقد وصف بعضهم لوحة الملك بأنها مرعبة، بينما رأى آخرون أن لوحة الأميرة لا تمت بصلة للشخصية الحقيقية. كذلك، لم يبتعد فنان الجداريات الشهير بانكسي عن هذا المشهد المثير، بعد أن أطلق العنان للحيوانات في شوارع لندن. فقد كشف بانكسي عن سلسلة من الجداريات التي تصور حيوانات بأوضاع طريفة في مواقع غير متوقعة في لندن. أما المعنى من وراء هذه الصور، فقد تركه الفنان كالعادة لتخيلاتنا.

رغم هذا النشاط الفني الكثيف والمثير الذي شهده العام المنصرم، بدا أن الفن يترنح تحت وطأة الأزمات. بين الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الجيوسياسية، شهدت الأسواق الفنية أسوأ أداء منذ سنوات. مع إغلاق العديد من المعارض الصغيرة والمتوسطة، بدا أن المشهد الفني يواجه تحديات وجودية غير مسبوقة. ولكن رغم هذه الأزمات، فقد تجسدت هذا العام قدرة الفن على التغيير والاشتباك بقوة مع الواقع العبثي الذي يعيشه العالم على وقع حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. لا ننسى هنا تجاوب الفنانين في مدن العالم مع ضحايا الجرائم الإسرائيلية. بين آلاف الضحايا الفلسطينيين، برز اسم الفنانة الفلسطينية محاسن الخطيب التي استشهدت في مخيم جباليا بقصف صاروخي. من بين أشهر أعمال الفنانة التي لاقت انتشاراً واسعاً، كانت لوحة لطفل صغير يمد يديه ليصد لهيب النار المتصاعد حوله. وعبر رسوماتها، نجحت الخطيب في تحويل واقع الحرب إلى لوحات تنبض بالألم والأمل معاً، ما جعل اسمها يلمع على مواقع التواصل الاجتماعي.

في عالم يموج بالتناقضات ويقف على حافة العبث، يبقى الفن مرآة عاكسة للواقع، يكشف تناقضاته ويضعنا أمام أسئلتنا الكبرى. كان عام 2024 لوحة فسيفسائية متداخلة، تشابكت فيها خيوط الإبداع مع الفوضى والجمال مع الألم والاحتفال مع الاحتجاج. بين بريق القاعات الفاخرة في نيويورك، وصخب المسيرات الحاشدة في شوارع مانهاتن، وبين صرخات الأطفال في قطاع غزة، وضحكات الأطفال أمام منحوتة وردية غريبة في ويلز، كشف العام المنصرم عن وجه الفن الحقيقي: مشتبكاً ومثيراً ومجنوناً.
في هذا العام، لم يكن الفن مجرد انعكاس للواقع، بل أداة لتحديه وإعادة تشكيله. وسط مشاهد تتراوح بين بيع موزة بملايين الدولارات، واحتجاجات تغرق المتاحف العالمية في سيل من الأزمات، وبين الجداريات الساخرة لبانكسي، وحكايات الذكاء الاصطناعي الذي اقتحم الأدب واللوحات، يبرز سؤال جوهري: هل أصبح الفن أكثر جنوناً، أم أن العالم هو من فقد صوابه؟

على هذه الأرضية المتأرجحة بين الإبداع والاضطراب، برزت القضية الفلسطينية نقطة التقاء بين ضمير العالم والفن. صرخات الفنانين ولوحاتهم واحتجاجاتهم، حملت أوجاع شعب تحت الحصار، لتؤكد أن الفن في جوهره ليس رفاهية، بل موقف وسلاح ووسيلة للبقاء في وجه العدم.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram