لم يكن اختيار رواية "سواكن الأولى" للكاتب المصري وليد مكي ضمن القائمة القصيرة لجائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرا محض صدفة، إذ أجمع النقاد والكتاب المصريون والعرب الذين قرأوها على اختلافها وتجديدها في السرد خاصة من حيث البنية والخطاب والثيمات، ما جعلها تبني عوالمها في مناطق مجهولة تثير اهتمام القراء.
حلّت رواية “سواكن الأولى” للكاتب وليد مكي، ضمن القائمة القصيرة لجائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرا، التي أطلقتها الهيئة العامة للترفيه بالمملكة العربية السعودية، ويرأسها الدكتور سعد البازعي، وهي الجائزة التي تسعى إلى تكريم الإبداع الأدبي الأكثر تأثيرا في الوطن العربي، ودعم الكتاب الذين يثرون الأدب العربي بأعمالهم الفريدة.
ووليد مكي كاتب مصري تعددت نصوصه الأدبية، واستقطبت جمهورا كبيرا من محبي الأدب، وأعضاء أندية القراءة العربية. كما لقيت اهتماما لافتا من النقاد، وعلى رأس تلك النصوص تأتي روايته “سواكن الأولى”، التي يقول إنه كتبها عن مكان يُحبه ويحرص على وصول صورته لكل العالم، وقد انتشرت الرواية بالفعل بين القراء العرب، كما تنوّعت الدراسات النقدية التي تناولت الرواية بالنقد والتحليل.
رواية فانتازية
بحسب وليد مكي، فإن أحداث رواية “سواكن الأولى” تدور في إطار من الواقعية السحرية – إن جاز هذا التصنيف – حول شخصية “همًّد” الذي يختفي فجأة وتبدأ سلسلة من البحث عنه، وأما مكان الرواية فهو في منطقة غائرة بحلايب وشلاتين، التي يقع فيها جبل يسمى جبل ألبا، وعلى قمة هذا الجبل يفاجأ الجميع بغيمة بيضاء تشبه الإناء الفخاري، وفي هذه الغيمة كان يرقد “همد” التائه، والذي بحث عنه الجميع في البحار والجبال وغيرها إلى أن اهتدوا إلى الغيمة.
وبعد ذلك تبدأ سلسلة من الصراعات ما بين الأنس في هذه المنطقة، والجن أيضا من ناحية أخرى، وبين الإنس والجن من جهة ثالثة، وتحتدم الأمور وتتعقد وتتشابك.. ويأتي المكان كبطل من أبطال هذا العمل، حيث يأتي ضمن فصول الرواية ذكر الكثير من الأماكن الحدودية بين مصر والسودان، ولذلك فإن الرواية معنية في الأساس بفكرة الهوية، وهنا الهوية الشمولية، الاجتماعية والثقافية والعرقية أحيانا.
نطل هنا على عوالم تلك الرواية عبر استعراض بعض ما كُتب ونُشر عنها من شهادت وتعليقات وقراءات ودراسات نقدية. ونبدأ إطلالتنا مما جاء في حيثيات اختيار الرواية ضمن قائمة الأعمال المرشحة للفوز بجائزة القلم الذهبي (في القائمتين الطويلة والقصيرة)، حيث أوضحت الجائزة أن رواية “سواكن الأولى” تدور في إطار من الفانتازيا والواقعية السحرية، في مثلث حلايب وشلاتين الحدودي بين مصر والسودان.
تبدأ القصة باختفاء الشاب “هُمّد” ابن شيخ مشايخ البشارية، ويظن قومه أن الجن قد خطفوه بعد معركة مع قبيلة الجبل. لكن يتبين لاحقا أنه محبوس في غيمة فوق جبل “إلبا”، ويكتشف وكيل النيابة أن القاتل هو جني من قبيلة “هسّاي” التي تقودها عفريتة تُدعى “وجوك”، التي تسعى للانتقام من قبيلة البشارية.
تتداخل الأحداث لتعرض صراعات داخل الأسرة الواحدة وبين أفراد القبيلة على الزعامة والهوية، حيث يسعى “آدم أوكير” للتحالف مع “وجوك” للسيطرة على القبيلة، بينما يلاحق “همد” مسألة هويته الضائعة. في سياق ذلك، تتشابك قصص الحب والتجارة والجريمة داخل المجتمع، وتطرح الرواية أسئلة عن الهوية، التقاليد، والصراع بين البشر والجن في هذا المكان النائي.
وقالت الكاتبة هدى مرمر، في شهادتها عن “رواية سواكن الأولى”، إن الرواية كُتبت بين بلدان الجنوب المصري المشبعة بالشمس اللاهبة، عن مكان مخبوء عن الأعين، هناك أقصى جنوب شرق مصر، حيث يعيش البشارية منذ زمن، وأنها قرأت الرواية في بيروت، حيث الشمس لا كشمس أبورماد، وأنها وصلت كقارئة إلى رسائل قصدها الكاتب، وأخرى لم يقصدها ووسعها النص المليء بالعجائب.
سرد مجدد
في تقديمه للرواية يقول الروائي أمير تاج السر “إن هناك في منطقة سردية ما – بعيدة عما هو مألوف – وعن تلك الحكايات التي توجد هنا وهناك، وعن بشر لهم أقدارهم كما لهم أساطيرهم وحيواتهم التي يألفونها دون غيرهم ، يكتب وليد مَكي ‘سواكن الأولى.'”
ورأى تاج السر أن “سواكن الأولى” رواية واقعية جدًّا، وأسطورية أيضا، وفيها رصد للعادات والتقاليد، وحكي مستمر عن تآلف الجن والبشر الذين يظهرون كنسيج واحد في هذا المجتمع القبلي بامتياز.
ولفت إلى أن الرواية تُظهر جغرافية المكان، بما فيه من جبال ووعورة وطرق بعضها معبد وبعضها غير معبد، ومطر قد يأتي أو لا يأتي وتستعين بأسماء مُعبرة عن منطقة البشارية الكبرى، مثل الطاهر أولباب وآدم أوكير وحمداي سرار وغيرهم.. وأنه "في خضم كل هذا، يكتب آل أولباب حكايتهم، وتكتب الغيمة حكاية أخرى، حين تضم هُمْد المُعتد بجبنته ورجولته، إليها."
واعتبر أمير تاج السر عمل مكي رواية جديدة تماما على المتلقي الذي ألف العوالم الجاهزة، سواء أكانت عوالم المدن أم عوالم الأرياف، لأنه في هذا النص سيسير في دروب ربما تسرد للمرة الأولى. وأقول إن ثمة تلاحما مع العوالم السودانية، في منطقة جغرافيتها تدعم هذا التشابك.
وحول رؤيته النقدية للرواية، قال الكاتب والأكاديمي عمار علي حسن “لا يُجلي الواقع مثل السرد الروائي، يفعل هذا في تمهل، وانشغال بالتفاصيل، بشكل أعمق كثيرا من علم الاجتماع، وحتى الأنثربولوجيا، بل إني حين قرأت في حقل ‘الجغرافيا الثقافية’ أدركت أن الرواية والقصة ضالعتان في خدمة هذا الفرع من علم مهم. أما السياسة التي يجب أن تبدأ من أسفل، فكثيرا ما تنسى هذا، مجذوبة إلى نقاش وجدل حول القضايا الكبرى، خاصة في أيام الاضطرابات والأزمات، وحين لا تكون قواعدها الأساسية قد استقرت بعد."
وأضاف أن رواية "سواكن الأولى" أتت لتغوص في كل هذا، وترسم لنا ملامح مجتمع تقليدي يشاكسه التحديث، فيأخذ منه، ويضيف إليه، ليبدو لنا الأمر كله على أنه ماض لا يريد أن يرحل، وحاضر منشغل بالهوية وحائر حول معنى التقدم، ومستقبل لا يريد أن يولد دون عنت وعناء.
ورأى أن الرواية تعبر عن الماضي الذي لا يريد أن يرحل، والحاضر الذي لا يتحقق، والمستقبل الذي لا يأتي، وبيّن كيف أنه تلقى الرواية باندهاش عجيب كونها تتحدث عن منطقة لم يتطرق إليها الأدب من قبل، فبرغم تفوق رواية الراحل صبري موسى "فساد الأمكنة" من حيث الحبكة إلا أن "سواكن الأولى" كُتبت بشكل أعمق عن المكان ومن داخله.
وتحدث علي حسن عن بنية السرد في الرواية، والتي اعتمدت على تعدد الأصوات الروائية داخل النص، وهو الأمر الذي اعتبره إعلاء للتعددية الفكرية ومعبرا عنها، وأن هناك تناصا محببا بينها وبين “فساد الأمكنة” لا يمكن تجاهله، وأشار إلى أنسنة المكان المتمثل في جبل إلبا وكذلك الجن وصراعهم مع البشر الذين يعيشون في هذه المنطقة، وفضّل من وجهة نظره أن تُكتب رواية جديدة يكون مسرحها ذات المسرح لتُستكمل قصة البشاريين في هذه المنطقة.
ومن الكُتّاب الذين تحدثوا عن الرواية، الروائي وليد علاءالدين، حيث أوضح أن أول ما لفت انتباهه في سواكن الأولى هذه اللغة الرصينة، التي نجح كاتب الرواية وليد مكي في الحفاظ على فخامتها طوال العمل على تعدد مستويات السرد، وتنوع إيقاعات الحوار باختلاف انتماءات ومرجعيات الشخصيات الثقافية.
وأكد أن مؤلف الرواية نجح في إدارة ما لديه من مخزون معرفي، وبانضباط واضح، بلا تفريط ومن دون إفراط، لينسج منه هذا العمل الجميل المصنوع من خيوط “حواديت”، وأساطير، ووقائع تاريخيّة، ومشاهدات مباشرة وخبرات خاصة.
واعتبر وليد علاءالدين أن "سواكن الأولى" نموذج يستحق الانتباه لتيار كتابة روائية جادة، تصنع المتعة والتسلية بمهارة على أسس من المعرفة والبحث والتدقيق، وأنها رواية تأتي ضمن تيار علينا تقديره وتسليط الضوء عليه في مواجهة تيارات الاستسهال الروائي التي تصدرت المشهد. وعبّر الشاعر والكاتب فتحي عبدالسميع عن سعادته بالرواية كسعادة العرب القدامى بظهور شاعر كبير، وشدد على أن الرواية كشفت عن "مبدع كبير بخياله وأسئلته، ومهاراته السردية."
وقال عبدالسميع إن الرواية تدور في محيط جبل إلبا، تلك المنطقة المجهولة أدبا وثقافة، الأمر الذي كان حافزا مثيرا لمتابعة الخيال الروائي وهو يغوص في عالمها الغامض بأساطيره وأسئلته الخاصة، العالم الذي يتداخل فيه البحر مع الجبل والإنس مع الجن.
وقال الروائي محمد موافي إنه قرأ رواية “سواكن الأولى” مرتين “مرة وهي مخطوطة حين أكرمه صاحبها بالثقة في ذائقته، والثانية وهي مطبوعة، وأنه وجد بعد القراءة مرة ثم مرة، بأنه يُمكنه القول إن المكان بطلها، أو اللغة هي البطل – أيضا – وأن الخيال، هو مفتاح السِر وبوابة السِحر في هذه الرواية، الخيال العجيب الذي ساق خلفه الكاتب واللغة والمكان والشخوص."
نسخ الرابط :