خط الغاز القطري التركي: توظيف سياسي واستهلاك إعلامي

خط الغاز القطري التركي: توظيف سياسي واستهلاك إعلامي

 

Telegram

 

هناك ميل مستغرب لاعتبار النفط والغاز هو السر الدفين و«القطبة المخفية» التي تفسر التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية المتشابكة في المنطقة. وآخر تجليات هذا «الميل» ما يتم تداوله عن خط الغاز القطري ـ التركي، وقبله خط الغاز الإيراني ـ السوري. فما هي قصة هذين الخطين، وما  هي الحقائق الموضوعية بشأنهما؟

يلاحظ بداية أنه بمجرد سقوط النظام السوري، تدفق «سيل» من التحليلات والتصريحات والتقارير المدعومة بالخرائط الإيضاحية، عن خطط لإحياء مشروع خط أنابيب الغاز القطري ـ التركي. وكان أبرزها تصريح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار بأن «المشروع قد يتم إحياؤه بعد سقوط نظام الأسد، وبعد تحقيق الاستقرار في سوريا».

تتركز التحليلات والتقارير على مسألتين: الأولى أن هذا الخط الذي طرحت فكرة إنشائه ودراسته الأولية بين العامين 2008 ـ 2010، سقط بسبب رفضه من قبل النظام السوري ومن ورائه إيران وروسيا. مع التلميح والتصريح أحياناً، بأن ذلك الرفض كان سبباً رئيسياً لاندلاع الثورة السورية. وبالتالي فإن تنفيذه سيكون في طليعة نتائج انتصار الثورة. والمسألة الثانية هي أن نظام الأسد رفض الخط القطري، لأن إيران كانت تنوي بناء خط بديل لنقل الغاز عبر الأراضي العراقية إلى السواحل السورية، ليتم تسييله ونقله إلى أوروبا!!

ويظهر التدقيق في معطيات تلك التقارير كما في خلاصاتها، أنها أقرب إلى «التبسيط العبثي» والقفز فوق الحقائق، في كلتا المسألتين ولنبدأ بالمسألة الثانية.

خط الغاز الإيراني إلى سوريا
تم طرح هذا الخط «في عز نشوة» انتصارات محور الممانعة وترسيخ التعاون والتكامل بين دوله. وهو مشروع أقرب إلى «العبثية»، لسببين: الأول أن تصدير الغاز إلى أوروبا يتطلب بناء محطة للتسييل في سوريا. وفي هذه الحالة الأجدى بناء المحطة في إيران الأقرب إلى الأسواق الآسيوية الأشد حاجة للغاز. أما إذا كان المخطط إيصال الخط إلى تركيا، فذلك «قمة العبث». لأن إيران تمتلك خطاً لانابيب الغاز يصل مباشرة إلى تركيا والذي يعمل بأقل من طاقته التصميمية.

أما السبب الثاني، فهو أن إيران ليست دولة مصدرة للغاز رغم كونها ثاني أكبر دولة من حيث الاحتياطيات في العالم. لأن الإنتاج بالكاد يكفي احتياجات السوق المحلية. وحتى الكمية التي تصدرها عبر الخط التركي وقدرها حوالي 10 مليارات متر مكعب (353 مليار قدم مكعب) سنوياً، فإنها تستورد كمية مماثلة لها من تركمانستان.

ومعروف أن إيران لم تتمكن طوال ربع القرن الماضي من تطوير صناعة الغاز والنفط بسبب العقوبات الأميركية والغربية. وينطبق ذلك بالطبع على الجزء الذي تمتلكه من حقل الشمال المشترك مع قطر، الذي يعتبر أكبر حقل في العالم. وهو الذي ساهم في جعل قطر أول وأحياناً ثاني أكبر دولة مصدرة للغاز المسال.

أما الحديث عن استخدام الخط لتزويد سوريا بالغاز الإيراني، فلا يستقيم لأن سوريا دولة منتجة ومؤهلة لأن تكون مصدرة للغاز. كما أنها دولة المصب لخط الغاز العربي مع تفريعة إلى لبنان.

خط الغاز القطري ـ التركي
طرحت فكرة هذا الخط في ظل ظروف مختلفة تماماً من ناحية الأوضاع الجيوسياسية وأوضاع أسواق الطاقة. وأتت دراسة هذا الخط الذي يمر عبر السعودية والأردن وسوريا، في سياق دراسة العديد من الخيارات الأخرى من بينها مثلاً دراسات سابقة لتوسعة خط غاز «دولفين» القائم فعلاً والذي يربط قطر بدولة الإمارات وسلطنة عمان، بإضافة خط بحري لنقل الغاز من السلطنة إلى الهند.

لكن قطر صرفت النظر عن فكرة بناء خطوط أنابيب عموماً وعن خط الغاز التركي تحديداً ليس بسبب رفض نظام الأسد. بل لأسباب موضوعية هي التالية:

أولاً: خيار الغاز المسال
كانت دولة قطر في طليعة الدول التي اعتمدت خيار الغاز المسال. وترافق ذلك مع قرار استراتيجي بالتركيز على ثروة الغاز الطبيعي بدلاً من النفط. وتمثل ذلك بانسحابها من منظمة «أوبك». وتمثل أيضاً بتحمل مخاطر الاستثمار المكثف في تطوير الثروة الغازية وبخاصة حقل الشمال الشهير. إضافة إلى الاستثمار في إنشاء البنية التحتية للتسييل وبناء الناقلات المتخصصة الخ.. وكذلك المخاطرة بخلق السوق وإقناع المستهلكين بجدوى الغاز المسال والاستثمار في بناء مرافق التغويز.

مرافق الغاز في قطر (المصدر: الجزيرة نت)
وحققت قطر نجاحاً باهراً في رهانها على الغاز الطبيعي أولاً والغاز المسال ثانياً. فهي تستأثر حاليا بأكثر من 75 في المئة من طاقة تسييل الغاز في منطقة الشرق الأوسط التي تقدر بحوالي 101 مليون طن سنوياً، كما ذكر منتدى الدول المصدرة للغاز في تقريره عن «توقعات الغاز العالمية 2050». وتخطط قطر لزيادة القدرة الإنتاجية بنسبة 13 في المئة ما يرفع الإنتاج إلى 142 مليون طن بحلول العام 2030، كما قال وزير الدولة لشؤون الطاقة سعد بن شريدة الكعبي. ويتوقع أن تنمو الصادرات القطرية من الغاز المسال بمعدل ضعفين ونصف في العام 2050 لتصل إلى حوالي 208 ملايين طن مقارنة مع انخفاض صادرات خطوط الأنابيب لأقل من 20 مليار متر مكعب.

ولغرض المقارنة والتوضيح، فإن صادرات قطر من الغاز المسال تعادل حوالي 7.25 مليون برميل من النفط يومياً، وهو رقم مماثل لصادرات النفط السعودي.

تبقى الإشارة إلى اعتماد قطر استراتيجية متكاملة لتسويق الغاز المسال تقوم على عقود طويلة الأجل مع أكثر من 20 دولة مستوردة مع جهود حثيثة لتوسيع قاعدة العملاء حيث وقعت خلال العام 2023 أكبر عدد من العقود متفوقة على الولايات المتحدة لأول مرة منذ العام 2021. وشملت هذه الإستراتيجية الدخول في اتفاقيات شراكة مع كبريات الشركات الدولية لتطوير حقل الشمال الذي تقدر تكاليفه بحوالي 30 مليار دولار. وشملت هذه الاتفاقيات شركات: شل، إكسون موبيل، توتال إنيرجيز، كونكو فيليبس، سينوبك الصينية. وذلك بهدف ضمان مسبق لأسواق التصدير.

ثانياً: استبعاد خطوط الأنابيب
يرجع ذلك إلى تراجع اهتمام غالبية الدول المنتجة والمستهلكة، بخطوط أنابيب النفط والغاز التي تمر بأراضي عدة دول. وفي مناطق تتسم بنوع من عدم الاستقرار السياسي والأمني. بعد أن ثبت أن مثل هذه الخطوط هي عرضة لتوتر العلاقات الثنائية بين الدول المعنية. أو للتوترات السياسية والأمنية الإقليمية. يضاف إلى ذلك سهولة تخريب الخطوط من قبل أي جهة متضررة أو جماعات إرهابية. ومثال ذلك ما حدث لخط الغاز العربي في صحراء سيناء، وما حدث لخط غاز «نورد ستريم» الروسي، وغيرهما الكثير.

ثالثا: المخاطر التجارية
تشمل على سبيل المثال المنافسة الشديدة في الأسواق الأوروبية. ووجود شبكة ضخمة من خطوط نقل الغاز من أذربيجان وشمال أفريقيا. والأهم من روسيا التي ستعاود ضخ الغاز فور انتهاء الأزمة الأوكرانية. يضاف إلى ذلك السياسات الأوروبية الثابتة لتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري للوفاء بالتزامات مواجهة التغير المناخي. وفي المقابل، فإن شركة قطر للطاقة موجودة بقوة في الأسواق الأوروبية من خلال عقود طويلة الأجل لتصدير الغاز المسال.

الخلاصة
من الخط الإيراني إلى الخط التركي، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. وليأتي تدفق «سيل» التقارير والتحليلات في سياق سعي تركيا لترسيخ موقعها كمركز إقليمي دولي للغاز. يساعدها في ذلك موقعها الجغرافي والبنية التحتية المادية واللوجستية شبه المتكاملة التي تمتلكها. كما يأتي في سياق سعيها لتوظيف انتصار الثورة السورية لتقوية موقفها في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

وبالمقابل، فإن قطر «المعنية» المباشرة بهذا الخط يبدو أنها «غير معنية» بالحديث عنه  في ظل الأوضاع الحالية المتعلقة بالجغرافيا السياسية وبأسواق الطاقة.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram