بدر الحاج
الاجتياح الصهيوني للأرض السورية، خصوصاً الاستيلاء على كل ما تبقى من جبل الشيخ، حقق الحلم الصهيوني القديم بالسيطرة على منابع المياه في شمال فلسطين، بالإضافة إلى المزايا الإستراتيجية والعسكرية التي تحققت للعدو حاضراً ومستقبلاً.
استغل الصهاينة فرصة انتقال السلطة في دمشق لحكام جدد، وأقدموا على عمليتهم العسكرية بموافقة أميركية حتماً، وسيطروا على مساحات شاسعة من الأرض السورية، وتواصل قواتهم التقدم يومياً لتبتلع المزيد من الأراضي. ونتيجة لذلك تضاعف خطر الكيان الصهيوني المحدق بدمشق التي أصبحت مهددة بالفعل، ما سيؤدي إلى مضاعفات في غاية السلبية على بلادنا من الناحيتين العسكرية والاقتصادية.
عسكرياً، أسفرت مئات الغارات التي شنها العدو على مواقع الجيش السوري ومراكز الأبحاث ومخازن الأسلحة والمطارات عن تدمير الترسانة العسكرية، فباتت سوريا في موقف لا تُحسد عليه. مئات الملايين من الدولارات التي أنفقت على مدار السنين لتعزيز القوات المسلحة أصبحت رماداً. ولتذكير من لا يريد من السوريين أن يفكر، والغارق حالياً في مستنقع النزاعات المذهبية والإثنية، أن السلاح الذي دُمّر ليس ملكاً لأسرة الأسد وإنما هو سلاح الشعب السوري الذي دفع ثمنه من عرقه وحافظ عليه بدمه.
إضافة إلى ذلك، فإن السيطرة الصهيونية على قمم جبل الشيخ فتحت للعدو مجالات واسعة للمراقبة والتنصت على كل بلاد الشام والعراق. هذا الوضع المستجد بدّل الكثير من المعادلات من النواحي العسكرية. ومن المؤكد أن مصير المنطقة السورية المحتلة حديثاً سيكون شبيهاً بمصير الجولان المحتل وما تبقى من فلسطين، أي الاحتلال الدائم وبناء المزيد من المستوطنات في حال لم تنشأ مقاومة تستنزف المحتل وتجبره على الرحيل.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد كانت فكرة السيطرة على جميع مصادر المياه في جبل الشيخ حلم الصهاينة الأوائل وحلفائهم البريطانيين، كما تثبت الوثائق والتصريحات البريطانية والصهيونية قبل مؤتمر الصلح المنعقد في باريس عام 1919، وبعده!
تدّعي المرويات الصهيونية أن آثاراً يهودية مهمة كانت منتشرة في جنوب لبنان. وهناك كتب عدة صدرت في القرن التاسع عشر تعتبر أن «أرض إسرائيل» تمتد حتى مدينة صيدا
مبدأ الاستيلاء على مصادر المياه كأساس لترسيم الحدود الشمالية لفلسطين وإنجاح المشروع الاستيطاني الصهيوني ورد في تقرير لجنة حكومية بريطانية شكلت في 8 نيسان 1915 برئاسة موريس دو بنسن بهدف وضع تصورات حول الأهداف المنوي الوصول إليها في آسيا بعد هزيمة الأتراك المتوقعة في الحرب. وصدر تقرير تلك اللجنة في حزيران 1915 مقترحاً العمل لتحقيق هدف أن تبدأ حدود فلسطين الشمالية من البحر المتوسط إلى الفرات، بما في ذلك شرق الأردن. وقد سبقت مقترحات تلك اللجنة وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917. أمّا بلفور نفسه، فكان رأيه مطابقاً لرأي تلك اللجنة، ولرأي الصهاينة بالنسبة إلى حدود فلسطين الشمالية. ويتضح ذلك في مذكرة أعدها في تاريخ 11 آب 1919 وكان فيها شديد الحرص على أن «تحصل فلسطين على منابع المياه، التي هي طبيعياً تعود إليها، وذلك إما بتوسيع الحدود نحو الشمال، أو باتفاقية مع الانتداب الفرنسي لاستغلال تلك المنابع من جبل حرمون الذي يقع تحت سيطرة الفرنسيين، وهكذا تستطيع فلسطين إقامة مشاريع اقتصادية ضخمة تؤمن اقتصاداً متيناً» (مقاطع من المذكرة نشرت في كتاب أفرايم وايماري كارش بعنوان "إمبراطوريات على الرمال… 1789-1925" الذي صدر بالإنكليزية عن جامعة هارفرد سنة 2004، ص. 255).
لاحقاً طالبت مذكرة الوكالة اليهودية إلى مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 بالموافقة على أن «تبدأ الحدود في الشمال من نقطة على البحر المتوسط في الضواحي الجنوبية لصيدا، ثم تتبع منابع المياه في سفوح جبل الشيخ حتى جسر الفرعون، ثم إلى البيرة إلى الخط الفاصل بين قسمي وادي التيم…». هذا الطموح الصهيوني سبقته مساعٍ بريطانية - صهيونية عدة تكللت بالنجاح، فتم بنتيجتها السيطرة، بعد أن أذعنت فرنسا، على سهل الحولة وبحيرة طبريا ومناطق تابعة لجبل عامل، وتم ترسيم حدود فلسطين مع لبنان، وإلى حد كبير، وفقاً للرغبات البريطانية - الصهيونية كما تشير المراسلات والمفاوضات التي أدت إلى اتفاقية بوليه-نيوكومب سنة 1923.
والآن حقق الصهاينة حلمهم بالسيطرة على جميع منابع المياه باستثناء الليطاني، ما يتيح لهم جلب المزيد من المستوطنين. ومن هنا يمكننا أن نفهم إصرارهم الدائم على المطالبة بإخلاء المنطقة جنوب الليطاني، وإعادة الوضع فيها إلى ما كان عليه بعد حرب 1948، وكذلك الإمعان في التدمير المنهجي للبيوت في جنوب لبنان. هذا الإصرار الإسرائيلي يفرض على السلطة في لبنان، كما كان الأمر سابقاً، بعدم استثمار المياه من الأنهر الجنوبية إلا بموافقة إسرائيل. ومن ناحية أخرى، لا معنى لمطالبة الصهاينة إخلاء المنطقة حتى مجرى نهر الليطاني من أي قوة عسكرية إلا لمنع أي محاولة مستقبلية للاستفادة من مياه النهر دون موافقتهم.
على ضوء هذه التطورات، من المتوقع أن يزداد الضغط الأميركي-الصهيوني-العربي باتجاه تجريد لبنان من كل عناصر القوة فيه، تماماً مثلما جرى في سوريا من تدمير لكل مصادر القوة العسكرية لديها. وهنا نتوقف بإعجاب أمام تجربة المقاومين في غزة وفي جنوب لبنان، حيث أثبتت الوقائع (رغم حرب الإبادة الوحشية) أن العدو وحلفاءه عجزوا عن كسر إرادة المقاومين. لذلك، فإن تجربة غزة ولبنان هي الطريق الوحيد للمحافظة على الأرض وما تختزن من ثروات. لقد قاومت غزة المحاصرة كل هذه المدة رغم الإمكانات العسكرية المحدودة جداً، والأمر نفسه ينطبق نسبياً على الجنوب اللبناني. وبما أن سوريا بلد مساحته وأعداد مواطنيه أضعاف مضاعفة مقارنة بغزة ولبنان، ففي استطاعتها تحرير أرضها بالقوة... في حال توافرت الإرادة السورية الواضحة.
لا شك في أن الصهاينة، إضافة إلى حاجتهم إلى السيطرة على منابع المياه بهدف تطوير المشروع الاستيطاني وتوسيعه، يدركون أن المساحات التي احتلوها حديثاً هي مناطق زراعية غنية جداً، لذلك إنهم سيتمسّكون بها ولن يهتموا إطلاقاً بالقرارات الدولية في حال صدرت. إن تجربة القرار الأممي الرقم 242 في تشرين الثاني 1967 ماثلة أمامنا. توصية القرار بالانسحاب من الأراضي التي احتلت في تلك الحرب تجاهله الصهاينة كلياً، وعمدوا إلى تشييد المستوطنات في كل من الجولان والقسم الذي احتُل مما تبقى من أرض فلسطين في تلك الحرب. وبالقوة العسكرية فرض الاحتلال سيطرته ثم باشر في الاستيطان، وهذه المرة لن يتبدل الأمر في المناطق التي احتلت إلا بالقوة.
وإضافة إلى الفوائد العسكرية والاقتصادية التي حصدتها إسرائيل، فإن التيارات الدينية الصهيونية تعتبر أن المنطقة السورية المحتلة حديثاً عاش فيها اليهود وأنبياؤهم أو ساروا فيها قديماً ولهم كل «الحق» في استرجاعها. وتدّعي المرويات الصهيونية أن آثاراً يهودية مهمة كانت منتشرة في جنوب لبنان. وهناك كتب عدة صدرت في القرن التاسع عشر تعتبر أن «أرض إسرائيل» تمتد حتى مدينة صيدا. ومن الأمثلة على تلك الإصدارات كتاب «أرض إسرائيل» الذي أصدره الجنرال الهولندي شارل فن دو فلدي بالفرنسية عام 1857 وتضمن رسوماً لجنوب لبنان وفلسطين منها رسم لقلعة صيدا البرية. وهذا الأمر يعني، في مفهومهم الديني، أن هذه المناطق التي سكنها قديماً اليهود تعود إلى ما يسمونه «أرض الميعاد» لأن قبيلة آشر كانت تقطن في المنطقة من صيدا إلى جبل لبنان. لذلك نستطيع أن نفهم لماذا تم تعيين حاكم عسكري خبيراً في الآثار بعد غزو 1982 وكان من اهتماماته دراسة المواقع الأثرية المتعددة في المنطقة المحتلة، وقد تم بإشرافه نهب عدد من المكتشفات. وهذا ما جرى خلال الحرب الأخيرة حين سارع المؤرخ وعالم الآثار الإسرائيلي زئيف إيرليخ إلى دخول قلعة شمع برفقة قائد لواء غولاني بهدف البحث عن أدلة تاريخيّة في ما يُدعى «أرض إسرائيل»، ولكنه خرج أفقياً كما وعد قائد المقاومة السيد نصرالله.
الحجج التوراتية التي يستند إليها الصهاينة في احتلالهم للأرض السورية، تقابلها حجج تركية «تاريخيّة» مشابهة. فالميثاق الملي التركي واضح في إعلان مطامع أنقرة في الاستيلاء على مناطق في شمال العراق وشمال سوريا. وخلال حكم إردوغان أصبح ضريح سليمان شاه في الأراضي السورية حجة جديدة للسيطرة التركية شبيهة بحجج الصهاينة التوراتية.
لأول مرة في القرن الواحد والعشرين تلغى الحدود التي رسمت على أرضنا في مطلع القرن العشرين. عندما تم ترسيم تلك الحدود لم يكن لشعبنا أي رأي إطلاقاً، فالترسيم جرى وفقاً لإرادة الدول المنتصرة في الحرب. واليوم، إن التشرذم الحاصل في بلادنا سيرسم حدوداً جديدة وسيجلب بكل أسف الكوارث والمزيد من الاحتلالات.
* كاتب لبناني
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :