| ابراهيم الأمين |
خصوم النظام السوري السابق، اتهموه بأنه يهتم بجزء من سوريا. وأن خطته بعد الحرب، كانت تركز على الإمساك بعدد من المناطق السورية وإهمال مناطق أخرى. ويومها أطلق وصف «سوريا المفيدة» على المناطق التي يركز فيها النظام سلطته، إذ لا يكون مضطراً إلى التعامل مع أكثر من نصف الشعب السوري، خصوصاً الذين يتركّز وجودهم في المناطق الغربية من البلاد.
ما يحصل اليوم في سوريا من تطورات، يبدو أنه يعيدنا إلى المربع نفسه. وأن الحكم الجديد بقيادة «هيئة تحرير الشام» التي يتزعمها أحمد الشرع، يهتم هو أيضاً، بالإمساك بهذه المناطق، قبل التوسع نحو بقية البلاد. وحجته، أن توحيد سوريا تحت سلطة واحدة دونه عقبات سياسية وعسكرية واقتصادية وحتى طائفية أو إثنية.
كل الذين عقدوا اجتماعات مع الشرع نفسه ومع آخرين ممن هم في موقع القرار، يشيرون إلى أن الأولويات المطروحة على الطاولة، تركّز على أمرين:
واحد يتعلق بإيجاد إطار عسكري يجمع بصورة طوعية كل من يمكن اعتبارهم حلفاء لتركيا، مع مغريات لمجموعات أخرى لن تجد مشكلة في التعامل مع الحكم الجديد.
وآخر يتعلق ببناء إطار مؤسساتي يسمح ببدء العمل على التعافي مع برنامج دعم مالي مصدره تركيا والخليج وبعض الأموال الغربية. وهو إطار يوجب وضع سياسات اقتصادية ومالية ونقدية مغايرة تماماً لما كان سائداً في المرحلة السابقة.
وبحسب ما يرشح من الاجتماعات الجارية، فإن الشرع، يهتم أولاً، بإقناع الفصائل المنضوية تحت لواء «هيئة تحرير الشام»، أو«الجيش الوطني»، أو الفصائل التي كانت تغرد لوحدها في بعض مناطق حمص والجنوب السوري، من أجل الدخول في إطار عسكري جديد، له قيادته المركزية، وفيه تراتبية كالتي توجد عادة في الجيوش. على أن يبدأ العمل عبر قيادة تضم غالبية قادة الفصائل، تعمل وفقاً لبرنامج زمني، لتكريس هيكلية جديدة، على أن يصار إلى حسم وجهة التعامل مع آلاف الضباط الذين كانوا في عداد الجيش السابق، والذين قد لا ينطبق عليهم وصف «الفلول»، إضافة إلى الضباط والجنود الذين انشقوا عن النظام.
والذين يلحون اليوم على إعادتهم إلى الجيش، وأنهم أكثر خبرة من القادة العسكريين الآخرين في البناء الإداري للجيش.
لكن الشرع الذي يعرف كل هذه التفاصيل، لا يملك الوقت للاستماع إلى كل الناس. ومنطقي أنه سيستعين في المدة الأولى بمن يثق بهم، سواء من الذين كانوا إلى جانبه طوال المرحلة الماضية. ورغم انفتاح الشرع على التعامل مع الجميع، فهو يعتقد بوجود فرصة ومكان لمراضاة كثيرين من القادة الميدانيين، ولكنه لا يريد لهذه الجوائز أن تكون على حساب هيكل القوة العسكرية والأمنية. وهو قال صراحة لقادة الفصائل، إنه مستعد لكل موجبات عملية الاندماج في الهيكل العسكري الجديد، ولكنه يريد عملية ذوبان شاملة. وإن الجيش الجديد لن يكون تجمعاً لفصائل لكل منها قائده أو ممثله في هيئة الأركان. بل هو جيش يفترض أن تختفي فيه الولاءات القائمة حالياً، لتحل محلها نزعة ولائية للسلطة المركزية. وهو ما أثار حفيظة مجموعات من درعا والسويداء، وجيش سوريا الحرة، كما هو الحال بالنسبة إلى قوات سوريا الديموقراطية (الأكراد)، لأن هؤلاء لا يريدون تذويبهم ضمن الهيكل الجديد، لا سيما أن قادة هذه المجموعات لديهم ارتباطات سياسية ومالية مع جهات داخل سوريا وخارجها.
فمنهم من يتكل على قاعدة اجتماعية ذات طابع قبلي أو مذهبي أو جهوي محدد. ومنهم من يستفيد من دعم أميركي أو إماراتي أو أردني أو إسرائيلي يدر عليه المال والسلاح ويعده بما هو أكثر. وهؤلاء، يعتبرون أن التنازل عن هذه المكاسب والامتيازات، يجب أن تقابله جوائز ترضية جدية. علماً أن بعض هؤلاء لم يتحدثوا صراحة مع الشرع، ولكنهم عبّروا عن هواجسهم في لقاءات لاحقة على اجتماعات دمشق، حين أعربوا عن خشيتهم ربطاً بطريقة الشرع في العمل كما دلت عليها تجربته في إدلب، ويقول هؤلاء، إن الشرع مستعد الآن للمقايضة، ولكنه وبمجرد أن يصبح السلاح محصوراً في يد القوة العسكرية الجديدة التي تخضع لإمرته، سوف يعمد إلى شطب الجميع. علماً أن الشرع صارحهم بأن الفرصة متاحة الآن للاندماج الكلي في الجيش الجديد، ولكنه قال بلغة حاسمة إنه لن يسمح لأحد بامتلاك السلاح خارج إطار الدولة.
ومع ذلك، فإن الشرع ليس في وارد الدخول في معارك غير ضرورية الآن. وهو اليوم ليس في حالة توافق كامل مع الرغبة التركية في الإجهاز فوراً على القوات العسكرية للأكراد. لا بل هو يمتنع حتى الآن عن المشاركة في المعارك ضد قوات «قسد»، بخلاف قوات «الجيش الوطني»، كما أن لديه قنوات حوار جانبية مع «قسد» ومع جهات خارجية يعتقد أنها تملك تأثيراً على الأكراد. كونه لا يضع المسألة الكردية في راس أولوياته. وهو يتصرف كذلك، وإن بشكل مختلف، مع «جيش سوريا الحرة» الذي ترعاه الولايات المتحدة الأميركية مباشرة.
فالشرع يتحدث عن مخاوفه من قيام مجموعات «داعش» بإعادة تنظيم صفوفها بعد سقوط نظام الأسد وخروج المجموعات المدعومة من إيران، وهو أبلغ إلى جهات سورية وخارجية أنه لن يتهاون مع «داعش»، ولكنه أضاف أن القرار يظل رهن ما سوف تقرره الولايات المتحدة الأميركية مع الإدارة الجديدة، فإذا كانت تنوي البقاء في سوريا لمدة إضافية، فسوف يتكل عليها في مواجهة «داعش»، لا سيما أنه يوجد بالقرب منه من يدعوه إلى ترك أمر «داعش» إلى الأميركيين والعراقيين.
أما بالنسبة إلى تحدي النفوذ الإسرائيلي المتزايد في جنوب سوريا، فإن الشرع ينظر إلى تأثيره على مسار فرض سلطته.
وهو ينظر بقلق إلى المجموعات الدرزية في السويداء، التي تغريها إسرائيل بالعمل من أجل بناء حكم ذاتي. لكن الاجتماعات التي عقدها مندوبون عن الشرع مع وجهاء أبناء المنطقة، حققت تقدماً، لجهة إقناعهم بالانخراط في الجيش الجديد، وحل المجموعات المسلحة، الا أنه يدقق في المعلومات عن دعوات إسرائيل لهؤلاء إلى «التمهل» في الاندماج مع الحكم الجديد، ريثما يصار إلى توضّح صورة السلطة السياسية أيضاً.
وهو أمر يحصل أيضاً مع بعض المجموعات في منطقة القنيطرة، والتي سبق لها أن تعاونت مع إسرائيل، وحصلت منها على دعم مالي وعسكري وإسعافي أيضاً. علماً أن الشرع كان واضحاً لكل من يهمه الأمر. وإذا كان الشرع غير راغب في أي صدام مع العدو، فإن السؤال يبقى حول نوعية الاتفاق الذي سيميل إليه لمعالجة فصائل الجنوب السوري. حيث يتركز اهتمامه على منع هذه الفصائل من الاقتراب من دمشق وحتى من ريفها الجنوبي.
أما اللغم الأكبر، فموجود في منطقة الساحل. وفي هذا الإطار، طلب الشرع من عاملين معه، ومن وسطاء محليين وعرب وحتى أجانب، القيام بكل ما يلزم، لإقناع «وجهاء الطائفة العلوية» بأنه لن يسمح بأي حرب انتقامية ضد أبناء الساحل السوري. وهو في هذا المجال، لا يستند إلى قراره فقط، بل إلى أنه يوجد قسم كبير من العلويين، الذين لا يريدون المواجهة مع الحكم الجديد. لكن مشكلة الشرع في هذا الملف ترتبط بالوجهة العامة لإدارة البلاد.
وبانتظار ما سيكون عليه الوضع مع انطلاق الحوار الوطني، فإن الوضع على الأرض شديد التوتر، وهناك مشكلات يومية تحصل. ويوجد عدد غير قليل من الضباط والمجندين الذين يرفضون الدخول في برامج التسوية القائمة الآن. كونهم يعتقدون أن بين المجموعات التي جاءت إلى الحكم الجديد، من يريد ارتكاب الجرائم بحق أبناء الساحل لمجرد أنهم ينتمون إلى طائفة بعينها، أو لأنهم كانوا من أنصار النظام السابق.
ويعرف الشرع، كما الآخرين، من قيادات الحكم الجديد، بأن الطمأنة لا تتم عبر الكلام فقط، بل عبر اللجوء إلى آلية للمصالحة الوطنية. لأن فكرة محاسبة المرتكبين من النظام السابق تبقى ضبابية، في ظل غياب أي إطار قانوني يمكنه الفصل بين من اتخذ القرار أو شارك في التنفيذ أو كان من ضمن المؤسسة أو المجموعة المشتبه في ارتكابها الجرائم. هذا بالإضافة إلى أن أنصار النظام السابق، لديهم أيضاً معطياتهم ووثائقهم التي تشير إلى جرائم هائلة ارتكبتها مجموعات المعارضة المسلحة خلال الحرب الأهلية، وبين هذه المجموعات، من هو اليوم في قلب «هيئة تحرير الشام». ما يعني، أنه في حال لم تخرج عن الشرع أو عن فريقه أي خطوة عملانية تقود إلى المصالحة الوطنية، فإن البديل سيكون هو سيطرة الخوف والتوتر وما يرافقهما من مواجهات لا أحد يقدر على توقع مآلاتها.
إن كل ما سبق، يجعل من المنطقي توقع أن تقوم إستراتيجية الشرع الآن على خوض معركة فرض السلطة على «سوريا المفيدة»، لكن للمصادفة، فهي نفسها «سوريا المفيدة» التي كان الأسد يهتم بها. بينما يبقى النازحون والمشردون من أبناء سوريا داخل البلاد وخارجها، ضحية انتظار مصالحة شاملة، تسمح لهم بالعودة الآمنة والمستدامة أيضاً.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :