كتب ناجي أمّهز
في مطلع التسعينات، تعرفت على دولة الرئيس عمر كرامي من خلال صحفي من بلاد جبيل، حيث كنت ألتقي دولته دوريًا. ورغم حداثة سني، إلا أنه كان بفراسته وحكمته يدرك أن جعبتي مليئة بما يفيد في السياسة، وصوتي يصل إلى أبعد ما يظنه الكثيرون.
حتما، هذا المقال ليس موجهاً إلى الوافدين حديثًا على عالم السياسة والسلطة، بل إلى النخبة التي عاشت مع رشيد كرامي وعاشت معاناته عن قرب. هو رجل الدولة والسلطة المطلقة قبل الحرب الأهلية التي عصفت في لبنان.
كان الشهيد رشيد كرامي معروفًا عنه أنه رجل حل الأزمات وحماية دور لبنان الريادي في تلك الفترة، عندما كان لبنان يمتد من واشنطن في ظل هيبة إيزنهاور، إلى القاهرة زمن عبد الناصر.
في تلك الحقبة، لم تكن السياسة على شاكلة "نشر الغسيل" كما يحصل اليوم، بل كانت سياسة الكبار في عقولهم ونفوسهم. يومها، لم يكن الزعيم يملك قصرًا أو مالًا في الحسابات الخارجية. كان قصره وطنه، وحساباته محبة الناس له.
في تلك الحقبة، كان رئيس الجمهورية أو الحكومة اللبنانية يستقبل الضيف الرسمي الوافد بكل اعتزاز وفخار، وهو يعبر شوارع لبنان الأنيقة النظيفة وعمرانه الشاهق.
كان الضيف يدرس جيدًا أدق تفاصيل كلماته وموقفه السياسي، لأنه يعرف أن لبنان بلد الحريات الرائدة، والكلمة العميقة. حيث كان الصحفي أو الكاتب لا يقل أهمية عن الضيف القادم، وكان له تأثير عميق لا يقل عن فلاسفة الغرب والشرق. طبعًا، هذا الأمر كان قبل أن يتسلل الى مهنة الاعلام والسياسة الأبواق الصدئة.
هذا زمن رشيد كرامي، وهكذا تربى عمر كرامي، وهكذا تعلم فيصل كرامي.
لبنان ثم لبنان ثم لبنان.
هذه العائلة هي عائلة رجال دولة قبل ولادة لبنان الكبير منذ قرن ونيف.
رشيد كرامي لم يختلف مع حافظ الأسد على الإعلام أو عبر الصحف، أو أنها كانت معركة تسجيل النقاط. كما أنه لم يتفق مع حافظ الأسد كي يمنحه لقب دولة الرئيس. كان هو الدولة والرئيس وخادم الشعب قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة.
رجال السلطة والدولة لا داعي لأن يصرخوا ليلاً ونهارًا كي يثبتوا أنهم على حق، فالحق لا يحتاج إلى صراخ. يكفي رجل الدولة أن يحرك يده حتى يفهم الآخر.
كما أن رجل الدولة لا يقف عند الهمروجات الشعبية لينال التصفيق، بل يقف عند حدود الدولة لحماية الوطن على حساب كل ما يملكه، حتى لو كان ما يقوم به سيكلفه حياته. الدول رجال.
اليوم، يطل علينا بعض مستحدثي نعمة الظهور في زمن التيك توك، لأنهم لم يعيشوا عندما كانت طرابلس تُقصف يوميًا بالاطنان من البارود والنار، وكانت حياة الرئيس رشيد كرامي ممكن أن تنتهي في لحظة تحت عنوان "صاروخ سقط خطأ على مكان تواجده".
أيضًا، الرئيس عمر كرامي عاش أصعب الظروف وأحلكها، مع نظام شاهدناه جميعًا كيف يتصرف.
عندما كُلف الرئيس كرامي في عام 1990 برئاسة الحكومة، لم يكن يريدها أو مهتمًا بها، لكن حافظ الأسد أصر على قبول الرئيس كرامي بها، لأن القرار الدولي في تلك الفترة كان يعرف أنه بعد سقوط الجنرال عون وبدء تطبيق الطائف، لا يوجد بديل عن آل كرامي، لأنهم الشرعية والمصداقية والشفافية الوطنية. كما كان آل كرامي عند إعلان ولادة لبنان الكبير، فلا بديل عن آل كرامي عند ولادة لبنان الطائف.
راجعوا الأسماء التي شكلت منها وزارة الرئيس كرامي الأولى، وستعرفون أن الجميع كان يعرف أنه تحت مظلة الرئيس عمر كرامي، وليس الرئيس عمر كرامي تحت مظلة أحد.
راجعوا الصحف والظروف التي سبقت تكليف الرئيس عمر كرامي، وستعرفون أنه لو رفض الرئيس كرامي رئاسة الحكومة، لكانت طرابلس قد اشتعلت بالحروب التي لن يخرج منها أحد.
لو بحثتم في الإنترنت، ربما لن تجدوا إلا الشيء النذير جدًا عن لقاءات حافظ الأسد وعمر كرامي، وهي ضمن البروتوكولات بين البلدين فقط.
بالمقابل، ستجدون غالبية هؤلاء السياديين والسياسيين الذين يتبرؤون اليوم من نظام الأسد، أما كانوا يستيقظون صباحًا على تلاوة نشيد حافظ الأسد، ويغفون على رسائل الغرام لبشار الأسد.
أو أنهم كانوا ينتظرون بالساعات عند عتبة الباب لينالوا حظوة النظر إلى حافظ الأسد أو حتى القول إنهم مروا على بابه.
هؤلاء المنفوخين اليوم كان أحدهم يحكم الشارع إذا، شو، عسكري من قوات الردع تغدى أو تعشى عنده، يمكنكم مراجعة الكثير من القصص التي كان الضباط السوريين يتدخلون حتى بنزاع البيوت والعائلات.
غالبية هؤلاء السياسيين اليوم، بالأمس، لم يكن أحدهم يملك اسمًا أو عنوانًا، كان يضع على زجاج سيارته إما اسم ضابط المخابرات السورية أو صورة لحافظ الأسد. بل كان غالبيتهم، قبل أن يبدأ بالسلام، يخبرك عن أحد أمجاده أنه قابل الضابط السوري الفلاني والعلاني.
وغالبية الوزراء والنواب كانت تتخصص وتتعلم الحديث عن فوائد "قرعة المتة" ومنهم من درس ليتخصص باعداها وتقديمها، يعني إذا كان أحد الوزراء أو النواب أو حتى الصحفيين قد شرب "قرعة متة" عند أحد ضباط المخابرات، يعتبر أنه نال ارفع الاوسمة.
لا تدعوا أحدًا يضحك عليكم أو يستغلكم. لا يوجد أحد أكثر مني دفع ثمن نزاعه وتصادمه مع نظام الوصاية السورية، منذ عام 1988 حتى الآن. لكن في الختام، أين أنا وأين تجار الشعارات والممثلين الذين هم كالفطريات ينمون ويتضخمون على حساب الآخرين.
ما عاشه آل كرامي في السلطة هو خدمة لبقاء الدولة، بل ما تعيشه النخبة السياسية اليوم في طرابلس، لأن آل كرامي كرّسوا دور طرابلس الفيحاء في الأعراف السياسية اللبنانية، وإلا لكانت مهمشة في كل شيء.
ما كتبته عن الرئيسين رشيد وعمر ينطبق أيضًا على الوزير فيصل كرامي.
هذه العائلة الهادئة هي في السياسة أعظم من تسونامي وأعنف من إعصار، ولها جذور عميقة. لذلك، ليسوا بحاجة إلى التطبيل والتزمير على كل شيء يقومون به.
حقيقة آل كرامي، لم يوزعوا الأموال الانتخابية على الشعب الطرابلسي كما يفعل الغالبية اليوم الذين يبيعون ويشترون في الانتخابات. لكن آل كرامي وظفوا الكثيرين في مؤسساتهم التي بنوها من تعبهم، والتي تخدم كل من يقصدها، حتى لو لم يكن ينتخبهم.
حقيقة آل كرامي، لم يكونوا شركاء في منح التعهدات للأقارب والمحسوبيات والأزلام، لأنهم لا يقبلون حتى الاقتراب من المال العام.
مشكلة آل كرامي الوحيدة أنهم ليسوا ممثلين ومهرّجين كغالبية الساسة الذين تجدهم 24 ساعة على 24 ساعة على الفضائيات، وعبر السوشيال ميديا.
لأن السياسة عمل وحكمة وبصمت، لذلك كل سياسي تشاهدونه يرغي ويرغي عليكم، فاعلموا فورًا أنه حكواتي.
قد يأتي يوم وأكتب بعض ما حدثني عنه الرئيس عمر كرامي، وبعض الضغوط التي رافقت حكومته الأولى وكيف تصرف معها، وكيف كان يعوّل على انفراط عقدها قبل انطلاقها، لانه لم يكن يرغب باي شيء بظل نظام الاسد، لذلك عند اول كلمة اوموقف اوحتى دمعة سارع الى الاستقالة حتى دون مراجعة.
آل كرامي هم كخشب أرز لبنان، لا يمكن لأحد أن يشكك في ولائهم أو وطنيتهم، أو حتى أن ينتقص من دورهم الذي دائمًا يكون لخدمة لبنان، كل لبنان.
بل حراس لبنان هم آل كرامي، ومنهم فيصل عمر كرامي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :