في يوم السبت الماضي الثاني من نوفمبر، مرت الذكرى الـ107 على صدور ما يعرف بـ"إعلان بلفور"، الذي قدمت فيه بريطانيا وعداً بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
تأتي ذكرى هذا "الوعد" في هذا العام، في ظل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ أكتوبر 2023، حيث يواجه محنة كبرى تتضمن العنف والقمع والتهجير في قطاع غزة، ضمن موجة واسعة من الهجمات.
منذ أكثر من عام، تتعرض غزة لاعتداء مستمر من قبل الكيان المحتل، أسفر عن عدد هائل من الضحايا، بينهم مئات الآلاف من الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى أكثر من عشرة آلاف مفقود، بينما يعاني السكان من الدمار والمجاعة، التي تسببت في وفاة العديد من الأطفال وكبار السن.
وفي 2 نوفمبر عام 1917، وجه وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور رسالة إلى اللورد روتشيلد، أحد قادة "الحركة الصهيونية" حينها، والتي أصبحت تُعرف فيما بعد بـ"وعد بلفور". عبر هذا الوعد، منحت بريطانيا اليهود حقا مزعوماً بإقامة وطن لهم في فلسطين، معتمدة على المقولة الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
وجاء في نص الرسالة أن "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستسعى بجدية لتحقيق هذا الهدف"، مع تأكيدها على عدم المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير "اليهودية" الموجودة في فلسطين، بالإضافة إلى عدم تأثير ذلك على أوضاع اليهود في البلدان الأخرى.
فعند إصدار هذا الوعد، لم تكن نسبة اليهود في فلسطين تتجاوز 5% من السكان، كما أُرسلت الرسالة قبل أن تحتل القوات البريطانية فلسطين. ويستخدم أنصار القضية الفلسطينية وصف "وعد من لا يملك لمن لا يستحق" لهذا الوعد.
فقد مثّل "إعلان بلفور" خطوة أولى باتجاه إقامة كيان "لليهود" على أرض فلسطين، بما يتماشى مع الرغبات الصهيونية، وعلى حساب شعب يمتد جذوره في هذه الأرض منذ آلاف السنين.
كما هو معلوم فقد استمرت المفاوضات على مدى ثلاث سنوات بين الحكومة البريطانية و"اليهود" البريطانيين و"المنظمة الصهيونية العالمية"، ليصدر بعدها الوعد الذي استغلته "الصهيونية" لإقناع بريطانيا بقدرتها على تحقيق مصالحها في المنطقة.
من ثم أحيل نص إعلان بلفور إلى الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، الذي وافق عليه قبل نشره. كما حظي بموافقة فرنسا وإيطاليا عام 1918، وتلاهم ويلسون في إعلان الموافقة عام 1919، ثم اليابان.
وفي 25 أبريل 1920، قرر المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر "سان ريمو" أن تُسند مهمة الانتداب على فلسطين إلى بريطانيا لتنفيذ بنود وعد بلفور، وفقاً للمادة الثانية من صك الانتداب.
ثم أقرّ مجلس عصبة الأمم الانتداب في 24 يوليو 1922، ودخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر 1923، مما يجعل من إعلان بلفور وعداً غربياً شاملاً، وليس فقط بريطانيا.
على مر العقود، لم يستسلم الشعب الفلسطيني رغم سلسلة القرارات الدولية والوعود السياسية، التي حاولت فرض واقع جديد على أرضه. فقد بادر منذ أواخر العشرينيات بإطلاق حركات مقاومة مستمرة، بدأت بثورة البراق عام 1929، واستمرت بتصاعد حتى ثورة عام 1936، ووصلت إلى ما سمي بعملية طوفان الأقصى عام 2023. هذه الحركات كانت بمثابة ردٍّ على محاولات فرض الهيمنة ومصادرة الأرض وحقوق الشعب الفلسطيني، لتؤكد رفضه القاطع لأي مشاريع لا تتفق مع طموحاته الوطنية.
في المقابل، استندت "الحركة الصهيونية العالمية" إلى هذا الوعد كقاعدة قانونية، لدعم مطالبها بإقامة "دولة يهودية" في فلسطين، مدعومة بتحالفات مع قوى دولية بارزة كانت تعزز طموحاتها. وتمكنت من الانتقال من مرحلة التنظير لأفكارها إلى التنفيذ العملي بعد المؤتمر "الصهيوني" الأول في بازل بسويسرا عام 1897، حيث أُقر "البرنامج الصهيوني" الرسمي الذي أعلن بوضوح عن مسعى الحركة لإنشاء وطن قومي للشعب "اليهودي" في فلسطين.
للأسف، فقد اعتبر إعلان بلفور وثيقةً محورية، حيث ذُكر في وثيقة الاستقلال التي أعلنت مع قيام "إسرائيل" عام 1948، ليصبح علامةً فارقة في السعي لتحقيق طموحات "اليهود" بإقامة كيان قومي يجمعهم. ومع اعتراف بعض القوى الكبرى بهذا الإعلان، تمكنت "الحركة الصهيونية" من استغلال الدعم الدولي، بدءاً من تصريح بلفور وصولاً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، والذي قضى بتقسيم فلسطين. كما مهد هذا الدعم الطريق أمام إعلان قيام "إسرائيل" في 15 مايو 1948، ثم حصولها على عضوية الأمم المتحدة بدعم من القوى العظمى.
وفي ذكرى مرور 107 سنوات على الوعد، أصدرت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية بياناً، أكدت فيه رفضها لهذا "الوعد المشؤوم"، وطالبت المجتمع الدولي بالالتزام بقراراته. وعبّر البيان عن إدانة الشعب الفلسطيني وقيادته للتبعات المدمرة التي أسسها هذا الوعد، والتي ما زالت تؤثر على الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا. وأشار البيان إلى ما يعانيه الفلسطينيون من نكبة مستمرة تشمل نفي الآخر والانتقام منه، حيث يتجسد ذلك في الحرب التي تشن ضد قطاع غزة للعام الثاني على التوالي، في ظل استمرار العمليات الانتقامية ضد الفلسطينيين، وخاصةً في شمال غزة، إلى جانب التصعيد في التهجير والاعتداءات على المواطنين، وأعمال الاستيطان المكثفة، واقتحامات المسجد الأقصى والتهويد المتزايد للقدس.
كما تطرق البيان إلى مسؤولية القوى الكبرى، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، في دعم الكيان الذي أقامه هذا الوعد، مشدداً على ضرورة أن توقف تلك القوى انحيازها السياسي، وأن تجبر "إسرائيل" على وقف العنف والجرائم التي ترتكبها. وطالبت الوزارة المجتمع الدولي بضرورة توفير الحماية للشعب الفلسطيني، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، ووقف سياسات التهجير القسري، وحماية المدنيين في غزة والأراضي الفلسطينية كافة، مشيرة إلى أن صمت المجتمع الدولي يشكل تواطؤًا في الجرائم التي تُرتكب.
واختتمت الوزارة بيانها بتوجيه التحية لصمود الشعب الفلسطيني، سواء في قطاع غزة أو في الشتات، وأكدت على موقفها الرافض لسياسات التهجير القسري، والتزامها بمواصلة النضال ضد جميع المؤامرات التي تستهدف المشروع الوطني الفلسطيني، معربةً عن أملها في دعمٍ دولي حقيقي ينهي معاناة الشعب الفلسطيني ويفسح المجال لتحقيق حقوقه المشروعة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :