فجأة، لم تعد ربطات العنق رائجة بين موظفي المصارف، ولا حتى بين رجال الأعمال. فمع انهيار القطاع المصرفي، الذي كان القناة شبه الوحيدة لتدفق الثروة وتسهيل السطو عليها، توقفت إدارات المصارف عن التشدّد في ضبط «أزياء العمل» التي كانت تفرض ارتداء «بدلة رسمية» وربطة عنق. قد يُعزى الأمر إلى نيات أصحاب المصارف لصرف القسم الأكبر من الموظفين، أو لأنها تدرك أن رواتبهم تدنّت إلى مستويات تبرّر الإنتاجية المنخفضة بسبب الإفلاس. لا ضرورة للتشدّد طالما أن ربطات العنق إلى جانب ما يسمّى «البدلات الرسمية» كانت ضرورية يوم كان المصرف يتعامل مع الزبائن ويقدّم قروضاً ويستقبل ودائع.كانت هناك أفكار رائجة، بمعزل عن حقيقتها الفعلية، أن لباس الموظّف لا يكون «مرتّباً» إلا وفق قواعد الأسواق المالية العالمية التي تفرض ارتداء ربطة عنق. ومن الأفكار الرائجة، أن الزبائن الأثرياء يميلون أكثر إلى التعامل مع موظفين يرتدون ربطات عنق، وأن هذا اللباس يحمل ظهوراً أقوى أمام الزبائن من الطبقة المتوسطة والفقيرة انسجاماً مع نظرة المصارف الدونية لهذه الشرائح.
كانت هناك مظاهر واضحة المعالم تترجم نموذج الاقتصاد القائم على القطاع المصرفي. دوره حيوي في استمرارية النموذج وأركانه السياسية. يقوم على استقطاب الثروات من الخارج، وإعادة إقراضها في الداخل، وهو مسؤول عن تمويل حركة استهلاكية هائلة بلغت 19.9 مليار دولار في 2018 لبلد لا يزيد إنتاجه الكلّي في ذلك الوقت على 55 مليار دولار. لكن حين أتى الانهيار في عام 2019، فوجئ الجميع بأن المصارف سرقت أموال المودعين، وأن إفلاسها غير المعلن أدّى إلى انهيار نموذج الاقتصاد السياسي كلّه، ومعه انهيار الليرة وتقلّص حجم الاقتصاد وتفكّك المؤسسات العامة. كان الترابط قوياً بين إدارة النموذج ومحركاته. هكذا وجدت المصارف نفسها أمام تبدّلات جوهرية. لم تعد هي محور دوران الاقتصاد، بل صارت محور الاتهامات بالسطو والسرقة. لم يعد بإمكانها ممارسة أي نوع من العمل، باستثناء إدارة النزاعات مع الزبائن، سواء المودعون المطالبون بأموالهم أو المقترضون الذين يسعون إلى تسديد قروضهم بأدنى سعر. انعكس الأمر على موظفي المصارف الذين كانت تفرض عليهم «أناقة» معيّنة. كانوا يشغلون وظيفة يتمناها الجميع بمزاياها، لكنهم أصبحوا في واجهة النزاعات... هكذا خلعوا ربطات العنق التي كانت إلزامية. صحيح أن المصارف كانت تتصدّر مسار هذه «الموضة» بواسطة ربطات العنق، إنما النمط الاقتصادي كلّه كان قائماً على المسار نفسه. ينطبق الأمر على شركات التأمين والمحاماة والتجارة والخدمات... فمع الانهيار فجأة، اختفت البدلة من المشهد وحلّ محلّها لباس «سبور». لم يعد مستغرباً حضور العاملين في الاجتماعات الرسمية لشركاتهم بـ«الجينز». بل يكاد يكون لبس البدلة وربطة العنق أمراً مستهجناً في يوم عمل عادي. يروي أحد الموظفين في شركة عالمية، أنه سئل من مديره عن سبب ارتداء بدلة رسمية في أحد الاجتماعات: «المدير التنفيذي للشركة يحضر الاجتماعات بثياب عادية. هل كان لديك موعد لمقابلة عمل مع شركة أخرى؟».
صحيح أنه كان هناك تراند عالمي في مجال ما يسمّى «أزياء الأعمال» يقوم على التخلّي عن ربطة العنق لمصلحة نمط آخر، إلا أن هذا التراند الذي زاد عمره على 10 سنوات لم يصل إلى لبنان إلا مع تهاوي نادي المصارف والأموال في 2019. قبلها، كان التنافس ظاهراً بين كبار مديري المصارف ومديري الشركات التجارية والخدماتية على نوع البدلة الرسمية والاسم التجاري للمحل الذي يبيع منتجات «مميّزة» مستوردة من الباب الأول التي يتجاوز سعر بعضها بضعة آلاف من الدولارات وربما أكثر. إلى جانب البدلة وربطة العنق، كانت هناك محال تجارية مخصصة لأحذية جلدية «فاخرة» الأكثر ندرةً ولا يرتديها موظفو المصارف، بل كبار المديرين وأصحاب المصارف. عملياً، كان هناك شريحة مفروض عليها ارتداء «أزياء العمل الموحّدة» بالتوازي مع شريحة تختار الزيّ نفسه بمواصفات «الرفاهية» و«الترف».
أما اليوم، فيمكن القول إنّ ربطة العنق التي رافقت النموذج الاقتصادي اللبناني على حافة الانقراض. صورة المصرف وشركات الأعمال والأموال فقدت بريقها. وخسرت ربطة العنق دورها كهوية بصرية لهذا المجال من العمل، وتحوّلت من زيٍّ رسمي إلزامي، ووسيلة عبور إلى عالم الأعمال، إلى أزياء للمناسبات العامة والخاصة. وهذا الأمر انعكس تراجعاً في مبيعات هذه السلع، إذ يؤكّد عدد من الباعة المتخصصين في هذا المجال، تراجع الطلب على شراء بدلة رسمية، وخصوصاً «البدلة اللبنانية» التي لا يزيد ثمنها على 300 دولار ولا يقلّ عن 75 دولاراً، لأن المصارف «أحجمت عن فرضها على الموظفين باعتبارها الزيّ الرسمي للعمل» يقول أحد أصحاب المحالّ المعروفة ببيع بدلات للطبقة الوسطى والأدنى. ويشير إلى أن حركة بيع البدلات الرسمية تقتصر اليوم على «مواسم الأفراح وحفلات التخرج في الجامعات وما يحمله المغتربون معهم من منتجات لبنانية أرخص ثمناً من مثيلاتها في الخارج»، علماً بأن سعر البدلة الرسمية المستوردة بجودة مماثلة أو أعلى، يبلغ ثمنها 400 دولار.
شباب أثرياء يفرضون ذوقهم
بمجرّد دخول أصحاب شركات التكنولوجيا الناشئة إلى نادي الأثرياء، فرض هؤلاء ذوقهم على الجميع. لا يرتدون ربطات العنق ولا البدلات الرسمية، بل مجرّد لباس «سبور» ينحو في بعض الأحيان ليكون أقل من عادي. لا يهتمّ هؤلاء بملابسهم، بل ينكبّون على عملهم بالـ«تي شرت» و«الجينز» و«الاسبدرين»... تحوّل الأمر إلى موضة عالمية. المصرفيون والمحامون يجالسون هؤلاء، ولا يجدون أي اهتمام منهم بأزياء العمل «الراقية»، فعمدوا إلى استبدالها بملابس تشبه زبائنهم الأثرياء أكثر. ورغم أن نوعية الملابس كانت تعدّ إهانة للحاضرين، إلا أن هؤلاء الأثرياء الشباب حضروا إلى اجتماعات وجالسوا رؤساء دول ووزراء وشاركوا في مؤتمرات بملابسهم العادية.
نسخ الرابط :